الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 460 ] المجلس السادس

          لاستفتاح شهر رمضان

          الحمد لله اللطيف الرؤوف العظيم المنان ، الكبير القدير القديم الديان ، الغني العلي القوي السلطان ، الحليم الكريم الرحيم الرحمن ، الأول فالسبق لسبقه ، المنعم فما قام مخلوق بحقه ، الموالي بفضله على جميع خلقه بشرائف المنائح على توالي الزمان ، جل عن شريك وولد ، وعز عن الاحتياج إلى أحد ، وتقدس عن نظير وانفرد ، وعلم ما يكون وأوجد ما كان ، أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها ، وفرق الأشياء بقدرته وجمعها ، ودحا الأرض على الماء وأوسعها والسماء رفعها ووضع الميزان .

          سالت الجوامد لهيبته ولانت ، وذلت الصعاب لسطوته وهانت ، وإذا بطش انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .

          يعز ويذل ، ويفقر ويغني ، ويسعد ويشقي ، ويبقي ويفني ، ويشين ويزين ، وينقض ويبني كل يوم هو في شأن .

          قدر التقدير فلا راد لحكمه وعلم سر العبد وباطن عزمه وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ولا ينتقل قدم من مكان .

          مد الأرض فأوسعها بقدرته ، وأجرى فيها أنهارها بصنعته ، وصبغ ألوان نباتها بحكمته ، فمن يقدر على صبغ تلك الألوان ، ثبتها بالجبال الرواسي في نواحيها ، وأرسل السحاب بمياه تحييها ، وقضى بالفناء على جميع ساكنيها كل من عليها فان .

          من خدمه طامعا في فضله نال ، ومن لجأ إليه في رفع كربه زال ، ومن عامله أربحه وقد قال : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان .

          إله يثيب عباده ويعاقب ، ويهب الفضائل ويمنح المناقب ، فالفوز للمتقي والعز للمراقب ولمن خاف مقام ربه جنتان .

          [ ص: 461 ] أنعم على الأمة بتمام إحسانه ، وعاد عليها بفضله وامتنانه ، وجعل شهرها هذا مخصوصا بعميم غفرانه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن .

          أحمده على ما خصنا به فيه من الصيام والقيام ، وأشكره على بلوغ الآمال وسبوغ الإنعام ، وأشهد أنه الذي لا تحيط به العقول والأذهان ، وأن محمدا أفضل خلقه وبريته ، المقدم على الأنبياء ببقاء معجزته ، الذي انشق ليلة ولادته الإيوان ، صلى الله عليه وسلم ، وعلى أبي بكر الصديق رفيقه في الغار ، وعلى عمر فتاح الأمصار ، وعلى شهيد الدار عثمان ، وعلى علي كاشف غمه سيد الشجعان ، وعلى عمه العباس المطهر من الأرجاس ، الذي دعي به فسال من السحاب تهتان .

          قال الله عز وجل : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن .

          إنما سمي الشهر شهرا لشهرته في دخوله وخروجه ، قاله النحاس ، وأما أسماء الشهور فذكر أبو منصور الأزهري عن المفضل قال : كانت العرب في الجاهلية تقول لرمضان ناتق ، ولشوال وعل ، وللمحرم مؤتمر ، ولصفر ناجر ، ولربيع الأول خوان ، ولربيع الآخر بصان ، ولجمادى الأولى ربى ، ولجماد الآخر حنين ، ولرجب الأصم ، ولشعبان عاذل ، قال : وكانت عاد تسمي هذه الأشهر بهذا فلما نقلت العرب أسماء هذه الأشهر سموها بما وقعت فيه من الزمان ، قال ثعلب :

          سمي رمضان لأن الإبل ترمض فيه من الحر ، وسمي شوال لأن الألبان كانت تشول فيه أي تذهب وتقل ، وسمي ذو القعدة لأنهم كانوا يقعدون فيه ، وذو الحجة لأنهم كانوا يحجون فيه ، والمحرم لتحريم القتال فيه ، وصفر لأنهم كانوا يطلبون القطر فيه ، يقال صفر السقاء إذا خلا ، وربيع لأنهم كانوا يربعون فيهما ، وجمادى لأن الماء يجمد فيهما ، ورجب من التعظيم يقال رجبه يرجبه إذا عظمه ، وقال شمر : ومنه سمي رجب ، وشعبان لأنهم يتفرقون ويتشعبون فيه ، وقال قطرب : سمي صفرا لأنهم كانوا يخرجون إلى بلاد تسمى الصفرية يمتارون منها .

          وقد أحدثت العرب لأسماء شهور الأعاجم أسماء ، فنقلت من خط أبي بكر بن الأنباري في كتاب قد صنعه أبو محمد الصبحي قال : لقبت العرب شهور العجم بألقاب غير ما سمتها به العجم : تشرين الأول أحد وثلاثون يوما والعرب تسميه مطلقا ، والثاني ثلاثون يوما واسمه عند العرب طليق ، وتسمي التشرينين القصابين لفشو الموت فيهما وكثرة من يموت ، وكانون أحد وثلاثون يوما واسمه عند العرب مجدح ، وكانون الآخر [ ص: 462 ] اسمه عند العرب حديج وتسميهما أيضا شيبان وملحان للثلج وبياضه وشدة البرد قال الكميت :


          وأصبحت الآفاق حمرا جنوبها بشيبان أو ملحان فاليوم أشيب

          ويقال لها أيضا الهزار لشدة البرد ، وشباط تسعة وعشرون يوما واسمه عند العرب فريح ، وآذار أحد وثلاثون يوما واسمه عند العرب مسهل ، ونيسان ثلاثون يوما واسمه عندهم صحان ، وحزيران ثلاثون يوما واسمه عندهم واقد ، وتموز أحد وثلاثون يوما واسمه عندهم ضرام ، وأيلول ثلاثون يوما واسمه عندهم طلق .

          قوله تعالى : الذي أنزل فيه القرآن فيه أربعة أقوال : أحدها : أنه أنزل القرآن في شهر رمضان إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل القرآن في رمضان ليلة القدر إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما .

          والثاني : أنزل القرآن بفرض صيامه ، قاله مجاهد والضحاك .

          والثالث : أنزل في فضله القرآن ، قاله سفيان بن عيينة .

          والرابع : ابتدئ فيه بإنزال القرآن ، قاله ابن إسحاق وأبو سليمان الدمشقي .

          قوله تعالى : هدى للناس أي : بيانا لهم ، والبينات : الآيات الواضحات ، والفرقان : المفرق في الدين بين الضلالة والشبهة .

          أخبرنا أبو القاسم بن الحصين بسنده عن نافع بن أويس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين " .

          وقد رويناه أيضا عاليا عن أبي سهيل نافع بن مالك . . . فذكره ، وقال : فتحت أبواب الجنة . أخرجاه في الصحيحين . ونافع يكنى أبا سهيل ، وهو من تابع التابعين ، والزهري من التابعين ، فقد روى الزهري عمن دونه ، فهو يخرج في رواية الأكابر عن الأصاغر .

          وقد روى جماعة من الصحابة عن التابعين فروى ابن عمر وابن عمرو وابن الزبير وأنس وأبو هريرة ، كلهم عن كعب .

          وقد روى جماعة عن أولادهم ، فروى أبو بكر الصديق عن عائشة حديثين ، وروى [ ص: 463 ] العباس عن ابنه الفضل حديثا ، وعن ابنه عبد الله حديثا ، وروى سليمان التيمي عن ابنه المعتمر حديثين ، وروى أبو بكر بن عياش عن ابنه إبراهيم حديثا ، وروى أبو داود السجستاني عن ابنه حديثين ، في خلق يطول ذكرهم .

          أخبرنا أبو منصور القزاز بسنده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . " إن الله ليس بتارك أحدا من المسلمين صبيحة أول يوم من رمضان إلا غفر له " .

          أخبرنا محمد بن أبي طاهر بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب جهنم فلا يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة " .

          أخبرنا عبد الأول بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " . أخرجاه في الصحيحين .

          وقد أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ولفظه : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا " .

          أخبرنا أبو نصر أحمد بن منصور الهنائي بسنده عن علي بن أبي طالب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهل شهر رمضان استقبل القبلة بوجهه ثم قال : اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والعافية والمحللة والرزق الحسن ودفاع الأسقام والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ، اللهم سلمنا لرمضان وسلمه منا حتى ينقضي وقد غفرت لنا ورحمتنا وعفوت عنا ، ثم يقبل على الناس بوجهه فيقول : يا أيها الناس ، إنه إذا استهل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وأبواب الرحمة وأبواب الجنان ، وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين وكان لله عز وجل عند كل فطر عتقاء من النار ونادى مناد كل ليلة : اللهم أعط كل ممسك تلفا وأعط كل منفق خلفا ، فإذا استهل هلال شوال نودي المؤمنون أن اغدوا إلى جوائزكم ، وأقل ما يجازى به الرجل أن يكتب له ألف ألف حسنة ويمحى عنه ألف ألف سيئة .

          [ ص: 464 ] أخبرنا محمد بن منصور بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله عز وجل إلى خلقه وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه أبدا ، ولله في كل ليلة ألف ألف عتيق من النار " .

          قال أبو عمرو : فشككت في شيء من هذا الحديث فكتبته من الحسن بن يزيد ، وكنت سمعته أنا والحسن بن عبد الله بن الحكيم ، حدثنا القاسم بن الحكم العرني ، عن الضحاك ، عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الجنة لتنجد وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان ، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة فتصفق ورق أشجار الجنات وحلق المصاريع فيسمع لذلك طنين لم يسمع السماعون أحسن منه ، فيشرقن الحور العين حتى يقفن على شجر الجنة فينادين : هل من خاطب إلى الله عز وجل فيزوجه ؟ ثم يقلن : يا رضوان ما هذه الليلة ؟ فيجيبهن بالتلبية ثم يقول : يا خيرات حسان هذه أول ليلة من شهر رمضان فتفتح فيها أبواب الجنات للصائمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويقول الله عز وجل يا رضوان افتح أبواب الجنان يا مالك أغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يا جبريل اهبط إلى الأرض فصفد مردة الشياطين وغلهم في الأغلال ثم اقذف بهم في لجج البحار حتى لا يفسدوا على أمة حبيبي صيامهم ، قال : ثم يقول الله عز وجل في كل ليلة من شهر رمضان ثلاث مرات : هل من سائل فأعطيه سؤله ، هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ من يقرض المليء غير المعدم الوفي غير الظلوم .

          قال : ولله عز وجل في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار ، فإذا كان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أعتق في كل ساعة ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجب العذاب ، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله عز وجل في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره ، فإذا كانت ليلة القدر يأمر الله عز وجل جبريل فيهبط في كبكبة من الملائكة معه لواء أخضر فيركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح منها جناحان لا ينشرهما إلا في ليلة القدر فينشرهما تلك الليلة فيجاوزان المشرق والمغرب قال : ويبث جبريل الملائكة في هذه الأمة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر ، فيصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى يطلع الفجر فإذا طلع الفجر نادى جبريل : يا معشر الملائكة الرحيل الرحيل ، فيقولون : يا جبريل ما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فيقول : إن الله عز وجل نظر إليهم في هذه الليلة فعفا [ ص: 465 ] عنهم وغفر لهم إلا أربعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهؤلاء الأربعة مدمن خمر ، وعاق لوالديه ، وقاطع رحم ومشاحن ، فقيل : يا رسول الله وما المشاحن ؟ قال : هو المصارم ، فإذا كانت ليلة الفطر سميت ليلة الجائزة ، فإذا كان غداة الفطر يبعث الله تعالى الملائكة في كل بلد فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك فينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله إلا الجن والإنس فيقولون : يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يغفر الذنب العظيم ، فإذا برزوا في مصلاهم يقول الله تعالى : يا ملائكتي ما جزاء الأجير إذا عمل عمله ؟ فتقول الملائكة : إلهنا وسيدنا جزاؤه أن توفيه أجره ، فيقول الله تعالى : أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثوابهم في صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضاي ومغفرتي ، فيقول الله عز وجل : سلوني فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئا في جمعكم هذا لآخرتكم إلا أعطيتكموه ولا لدنيا إلا نظرت لكم ، وعزتي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني ، وعزتي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود أو الجدود ، شك أبو عمرو ، انصرفوا مغفورا لكم قد أرضيتموني ورضيت عنكم ، قال : فتفرح الملائكة ويستبشرون بما يعطي الله عز وجل هذه الأمة إذا أفطروا " .


          وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت أمتي خمس خصال في شهر رمضان لم تعطهن أمة قبلهم : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ، ويزين الله كل يوم جنته ثم يقول : يوشك عبادي الصالحون يلقوا عنهم المؤنة أو الأذى ويصيروا إليك ، وتصفد مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ، ويغفر لهم في آخر ليلة ، قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا ولكن العامل يوفى أجره إذا قضى عمله " .

          وعن ابن عباس وعائشة قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل .

          وذكر أبو جعفر بن أبي شيبة في كتاب العرش عن كعب قال : قال الله تعالى : يا موسى بن عمران إني آمر حملة العرش أن يمسكوا عن العبادة إذا دخل شهر رمضان وأن يقولوا كلما دعا صائم رمضان : آمين ، فإني آليت على نفسي أن لا أرد دعوة صائم رمضان .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية