الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 91 ] المجلس السابع

          في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام

          الحمد لله العلي القوي المتين ، القاهر الظاهر المبين ، لا يعزب عن سمعه أقل الأنين ، ولا يخفى على بصره حركات الجنين ، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين ، وقل عند دفاعه كيد الشياطين ، قضى قضاءه كما شاء على الخاطئين ، وسبق اختياره لما اختار الماء والطين ، فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين ، جرى القدر بذلك قبل عمل العاملين ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين .

          أحمده حمد الشاكرين ، وأسأله معونة الصابرين ، وأصلي على رسوله المقدم على النبيين ، وعلى صاحبه الصديق أول تابع له على الدين ، وعلى الفاروق عمر القوي الأمين ، وعلى عثمان زوج ابنته ونعم القرين ، وعلى علي بحر العلوم الأنزع البطين ، وعلى عمه العباس ذي الفخر القويم والنسب الصميم .

          قال الله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين .

          إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أهنخ بن يرد بن مهلاييل بن قاين بن أنوش ، وأمه نونا بنت كرينا بن كوثا من بني أرفخشذ .

          وكرينا هو الذي كرى نهر كوثى .

          وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف سنة وتسع وسبعون ، وقيل ألف ومائتا سنة وثلاث وستون ، وذلك بعد خلق آدم عليه السلام بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة .

          ولما أراد الله عز وجل إيجاد إبراهيم عليه السلام قال المنجمون لنمرود : إنا نجد في علمنا أن غلاما يولد في قريتك هذه يقال له : إبراهيم ، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا .

          فلما دخلت السنة المذكورة بعث نمرود إلى كل امرأة حامل بقريته فحبسها عنده ، ولم [ ص: 92 ] يعلم بحبل أم إبراهيم ، فجعل لا يولد غلام في ذلك الشهر إلا ذبحه ، فلما أخذ أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة فولدت فيها إبراهيم وأصلحت من شأنه ، ثم سدت عليه باب المغارة ثم رجعت إلى بيتها ، وذلك بمدينة كوثى ، وكانت تتردد إليه فتراه يمص إبهامه قد جعل الله رزقه في ذلك ، وكان آزر قد سألها عن حملها فقالت : ولدت غلاما فمات ، فسكت عنها ، وقيل : بل أخبرته فأتاه فحفر له سربا وسد عليه بصخرة ، وكانت أمه تختلف إلى رضاعه ، فلما تكلم قال لأمه : من ربي ؟ قالت : أنا ، قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك ، قال : فمن رب أبي ؟ قالت له : اسكت ، فسكت ، فرجعت إلى زوجها فقالت له : إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض هو ابنك ، فأتاه فقال له مثل ذلك .

          فدنا إبراهيم عليه السلام بالليل من باب السرب فرأى كوكبا ، قال ابن عباس : هو الزهرة ، قال : وكان له حينئذ سبع سنين ، وقال مجاهد : هو المشتري ، فقال : هذا ربي أي على زعمكم ، فلما خرج كان أبوه يصنع الأصنام ويقول له : بعها ، فيأخذ الصنم ويخرج فيقول : من يشتري ما يضره ولا ينفعه ! .

          فشاع بين الناس استهزاؤه بالأصنام .

          وجعل يقول لقومه : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون أي مقيمون على عبادتها قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين أي إنا نقتدي بهم ونقلدهم .

          فخرجوا يوما إلى عيد لهم فخرج معهم ، ثم ألقى نفسه في الطريق وقال : إني سقيم فلما مضوا قال : وتالله لأكيدن أصنامكم والكيد : احتيال الكائد في ضر المكيد وأراد لأكسرنها ، فسمع الكلمة رجل منهم فأفشاها عليه .

          فدخل بيت الأصنام ، وكانت اثنين وسبعين صنما من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب ، فكسرها وجعلهم جذاذا أي فتاتا .

          ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير لعلهم إليه يرجعون في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الصنم فيظنون أنه فعل ، والثاني : إلى إبراهيم ، والمراد الرجوع إلى دينه .

          [ ص: 93 ] فلما رجعوا قالوا من فعل هذا بآلهتنا فنم عليه الذي سمع منه : لأكيدن فقالوا : سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم أي يعيبهم .

          قالوا فأتوا به على أعين الناس أي بمرأى منهم لعلهم يشهدون فيه ثلاثة أقوال :

          أحدها : يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال ، قاله ابن عباس .

          والثاني : أنه فعل ذلك ، قاله السدي .

          والثالث : يشهدون عقابه ، قاله ابن إسحاق .

          قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم والمعنى أنه غضب أن تعبد معه الصغار فكسرها .

          وكان الكسائي يقف على قوله : بل فعله ويقول معناه فعله من فعله ، ثم يبتدئ كبيرهم هذا وقال ابن قتيبة : هذا من المعاريض ، فتقديره : " إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا " .

          فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون حين عبدتم من لا يتكلم ثم نكسوا على رؤوسهم أي أدركتهم حيرة .

          فلما ألزمهم الحجة حملوه إلى نمرود فقال له : ما إلهك الذي تعبد ؟ قال ربي الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، آخذ رجلين قد استوجبا القتل ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ، وأعفو عن الآخر ، فأكون قد أحييته ، قال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب .

          فبهت نمرود وحبسه سبع سنين وجوع له أسدين ، وأرسلهما عليه فكانا يلحسانه ويسجدان له ، ثم أوقد له نارا ورماه فيها فسلم ، فكف نمرود عنه .

          فخرج مهاجرا إلى الشام فتزوج سارة وهي بنت ملك حران ، وكانت قد خالفت دين قومها ، ومضى فنزل أرض فلسطين فاتخذ مسجدا ، وبسط له الرزق ، وكان يضيف كل من نزل به ، وأنزل الله عليه صحفا .

          [ ص: 94 ] أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي ، أنبأنا أبو الحسين ابن المهندي ، أنبأنا الحسن بن أحمد بن علي الهماني ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الشمشاطي ، حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني ، حدثنا أبي ، عن جدي عن إدريس الخولاني ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزل الله تعالى على إبراهيم عليه السلام عشر صحائف قلت : ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها : أيها الملك المسلط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها وإن كانت من كافر وكان فيها : وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يتفكر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال ، وعلى العاقل أن لا يكون طاعنا إلا في ثلاث : تزود لمعاد ومرمة لمعاش ولذة في غير محرم ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية