الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          وفي الصراط المستقيم أربعة أقوال : أحدها : كتاب الله . رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : الإسلام . رواه النواس بن سمعان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : الحق قاله مجاهد . والرابع : المخرج من الضلال والشبهة . قاله أبو العالية .

          قوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة أحسنوا : عملوا بما أمروا به .

          يا من لا يحسن أن يحسن اسمع صفة المحسن :

          أقلقهم الخوف والفرق ، أحرقهم لذكر الموت الأرق ، طعامهم ما حضر من حلال واتفق ، يا نورهم في الدجى إذا دجى الغسق ، يا حسنهم وجند الدمع محدق بسور الحدق ، انقطع سلك المدامع فسالت على نسق ، وكتبت على صحائف الخلود العذر لا في ورق ، فإن كان المداد سوادا فذا المداد يقق ، يا لذة تضرعهم ويا طيب الملق ، أذاب الخوف أجسامهم فما أبقى إلا الرمق ، ربحت تجارتهم ومتاع الغافل ما نفق .


          وما كل من أومى إلى العز ناله ودون العلى ضرب يدمي النواصيا



          جرت دموع حزنهم في سواقي أسفهم ، إلى رياض صفائهم فأورقت أشجار وصالهم ، ودموعهم تجري كالديم كلما ذكروا زلة قدم ، يرعون العهد والذمم ، يحذرون نارا تعيد [ ص: 355 ] الجسم كالحمم ، يخافون حرها ومن له بتحلة القسم ، الليل قد سجى والدمع قد سجم ، يراوحون بين الجبهة والقدم ، كم بينك وبينهم عند النقد تبين القيم ، تالله ما جعل من نام مثل من لم ينم ، جاعوا من طعام الهوى وآذاك التخم ، يا قبيح العزائم يا سيئ الهمم ، يا مرذول الصفات يا رديء الشيم ، كأنك بك تتمنى إذا حشرت العدم ، نثرت عطايا الأسحار فبسط القوم حجور الآمال كاتبوا بالدموع فجاءهم ألطف جواب ، اجتمعت أحزان السر على القلب فأوقد حوله الأسف ، وكان الدمع صاحب الخبر فنم .

          كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كثير البكاء ، فما زال يبكي حتى بكى الدم . تغريب لون المداد يعجب القارئ !


          هذا كتابي إليكم فيه معذرتي     ينيبكم اليوم عن سقمي وعن ألمي
          أجللت ذكركم عن أن يدنسه     لون المداد فقد سطرته بدمي
          ولو قدرت على جفني لأجعله     طرسي وأبري عظامي موضع القلم
          لكان هذا قليلا في محبتكم     وما وجدت له والله من ألم



          تالله ما نال الكرامة إلا من قال للكرى : مه . إن أردت لحاقهم فطلق الهوى طلاق البتات ، اخل بنفسك في بيت الفكر وخاطبها بلسان النصح ، واعزم على الوفاق من غير تردد ، قف على باب الصبر ساعة وقد ركب على قفل العسر مفتاح النجاح .

          فأما الحسنى فهي الجنة . والزيادة : النظر إلى الله عز وجل .

          أخبرنا أبو القاسم الحريري ، أنبأنا أبو طالب العشاري ، حدثنا أبو الحسين بن سمعون ، حدثنا محمد بن مخلد ، حدثنا حسين بن بحر ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد : " يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويجرنا من النار ! فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله عز وجل فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه . وهي الزيادة .

          انفرد بإخراجه مسلم .

          وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله أنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ [ ص: 356 ] نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته .

          أخبرنا الكروخي ، أخبرنا أبو عامر الأزدي وأبو بكر الغورجي ، قالا : أخبرنا الجراحي ، حدثنا المحبوبي ، حدثنا الترمذي ، حدثنا سويد بن نصر ، أنبأنا ابن المبارك ، أخبرنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك ربنا وسعديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك . فيقول : إني لأعطيكم أفضل من ذلك : قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا " .


          لي إلى وجهك شوق     وإلى قربك فاقه
          ليس لي والله يا سؤ     لى بهجرانك طاقه
          لا ولا حدثت عن     حبك قلبي بإفاقه



          سجع على قوله تعالى :

          للذين أحسنوا الحسنى وزيادة

          سبحان من اختار أقواما للإفادة ، فصارت نهمتهم في تحصيل استفادة ، وما زالت بهم الرياضة حتى تركوا العادة ، شغلتهم مخاوفهم عن كل عادة ، وأنالهم المقام الأسنى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          كل منهم قد هجر مراده ، وشمر لتصحيح الإرادة ، علت هممهم فطلبوا الزيادة ، وعاملوا محبوبهم يرجون وداده ، ورفعوا مكتوب الحزن وجعلوا الدمع مداده للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          رفضوا الدنيا شغلا بالدين ، وسلكوا منهاج المهتدين ، وسابقوا سباق العابدين ، فصاروا أئمة للمريدين وقادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          هجروا في محبته كل غرض ، وأقبلوا على أداء المفترض ، والتفتوا إلى الجوهر [ ص: 357 ] معرضين عن العرض ، فأنحلهم الخوف فصاروا كالحرض ، يا له من مرض لا يقبل عيادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          لو رأيتهم والليل قد سجى ، وقد أقبلوا إلى باب المرتجى ، فلم يجدوا دون ذلك الباب مرتجا ، حلفوا في ظلام الدجى على هجر الوسادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          سبحان من أنعم عليهم وأفادهم ، وأعطاهم مناهم وزادهم ، ما ذاك بقوتهم بل هو أرادهم ، سبقت إرادتهم تلك الإرادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          لطف بهم وهداهم ، وأحسن إليهم وراعاهم ، وعطشوا من مياه الهوى فسقاهم ، وذللوا له النفوس فرقاهم إلى مقام السادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          أجرى لهم أجرا لا يوازى ، ووهب لهم في مفازة الخطر مفازا ، وأنجز موعدهم يوم اللقاء إنجازا ، وجازى عباده على سابق العبادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

          [ ص: 358 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية