الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الثامن :

          في ذكر العزلة

          الحمد لله الواحد القديم الجبار ، القادر العظيم القهار ، والمتعالي عن درك الخواطر والأفكار ، المنفرد بالعز والقهر والاقتدار ، الذي وسم كل مخلوق بسمة الافتقار ، فأظهر آثار قدرته بتصرف الليل والنهار ، سميع يسمع لا كالأسماع ، بصير يبصر لا كالأبصار ، قادر مريد حكيم عليم بالأسرار ، يبصر دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على القار ، ويسمع أنين المدنف يشكو ما به من أضرار ، كلم موسى كفاحا لما قضى الأجل وسار ، ورآه نبينا صلى الله عليه وسلم دل على ذلك القرآن والأخبار ، ويراه المؤمنون إذا نزلوا دار القرار ، صفاته كذاته والمشبهة كفار ، نقر ونمر وأرباب البحث في خسار ، هذا سيف السنة فتناوله باليمين لا باليسار ، واضرب به كف " كيف " ورأس " لم " وعنق " ثم " وخذ للتنزيه من التشبيه بالثار أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار .

          أحمده في الإعلان والإسرار ، وأشهد بوحدانيته بأصح إقرار ، وأصلي على رسوله محمد سيد الأنبياء الأطهار ، وعلى أبي بكر رفيقه في الدار والغار ، وعلى عمر قامع الكفار ، وعلى عثمان شهيد الدار ، وعلى علي قسيم النار ، وعلى عمه العباس آخذ البيعة ليلة العقبة على الأنصار

          أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي سعيد الخدري ، قيل : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال : " رجل يجاهد بنفسه وماله ، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ، ويدع الناس من شره " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد البزار ، قال : أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب بسنده ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من خير معايش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه يطير على متنه كلما سمع هيعة أو [ ص: 647 ] قرعة طار على متن فرسه يلتمس الموت والقتل مكانه ، ورجل في رأس شعفة من الشعاف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ، ليس من الناس إلا في سبيل خير .

          قال أبو عبيدة : الهيعة : الصوت . قال الطرماح :


          أنا ابن حماة المجد من آل مالك إذا جعلت خور الرجال تهيع

          والخور جمع خوار وهو الضعيف ، والشعفة واحدة الشعاف ، وهي رؤوس الجبال ، وهي الشماريخ ، والشناخيب واحدها شنخوبة .

          وروي عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله : ما النجاة ؟ قال : " املك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك "

          قال الشيخ : وهذه الأحاديث تدل على فضل العزلة .

          وقد كان السلف يؤثرونها ويمدحونها ، فقال عمر بن الخطاب : خذوا بحظكم من العزلة .

          وقال سعد بن أبي وقاص : والله لوددت أن بيني وبين الناس بابا من حديد ، لا يكلمني أحد ولا أكلمه حتى ألحق بالله تعالى .

          وقال ابن مسعود لأصحابه : كونوا ينابيع العلم ، مصابيح الليل ، أحلاس البيوت ، جدد القلوب خلقان الثياب ، تعرفون في أهل السماء ، وتخفون على أهل الأرض .

          وقال أبو الدرداء : نعم صومعة الرجل بيته ، يكف فيها بصره ولسانه ، وإياكم والسوق فإنها تلهي وتلغي .

          وقال ابن عباس : لولا مخافة الوسواس ، لرحلت إلى بلاد لا أنيس بها ، وهل يفسد الناس إلا الناس !

          كان أبو جهم الأنصاري بدريا ، وكان لا يجالس الناس وكان يعتزل في بيته ، فقالوا له : لو جالست الناس وجالسوك ؟ فقال : وجدت مقاربة الناس شرا .

          وقال أبو حذيفة : والله لوددت أن لي إنسانا يكون في مالي ، ثم أغلق علي بابا فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله عز وجل .

          وقال الحسن : صوامع المؤمنين بيوتهم .

          [ ص: 648 ] وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين : العزلة عبادة .

          وقال عمر بن عبد العزيز : إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ، ويهرب من الناس ، فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة .

          وكان عثمان بن أبي دهرش إذا رأى الفجر أقبل عليه بثه ، وقال : الآن أصير مع الناس ، فلا أدري ما أجني على نفسي !

          وقال داود الطائي : فر من الناس كما تفر من الأسد .

          وأوصى سفيان الثوري بعض أصحابه فقال : إن استطعت أن لا تخالط في زمانك هذا أحدا فافعل ، وليكن همك مرمة جهازك .

          وكان يقول : هذا زمان السكوت ولزوم البيوت .

          وجاء رجل إلى الفضيل فجلس إليه ، فقال : ما أجلسك إلي ؟ فقال : رأيتك وحدك ، فقال : إما أن تقوم عني ، وإما أن أقوم عنك ، فقال : أنا أقوم أوصني . فقال : أخف مكانك ، واحفظ لسانك .

          وجاء رجل إلى شعيب بن حرب ، فقال : ما جاء بك ؟ فقال : جئت أونسك ، فقال : أنا أعالج الوحدة منذ أربعين سنة !

          وقال مالك بن أنس : كان الناس الذين مضوا يحبون العزلة والانفراد من الناس .

          وقال بشر الحافي : من عامل الله بالصدق استوحش من الناس .

          وقد كان أحمد بن حنبل يحب العزلة ، وإبراهيم بن أدهم ، وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط ، وحذيفة المرعشي في خلق كثير .

          واعلم أن العزلة لا ينبغي أن تقطع عن العلم ، والجماعات ، ومجالس الذكر ، والاحتراف للعائلة ، وإنما ينبغي أن يعتزل الإنسان ما يؤذي ، وقد يخاف من المخالطة المباحة أذى ، فيجتهد الإنسان في ترك ما يخاف عواقبه .

          ويبعد حضور القلب مع المخالطة للناس ، إلا أن يكون لمعنى .

          وقد قال شعيب بن حرب : الناس ثلاثة : رجل تعلمه فيقبل منك ، ورجل تتعلم منه ، واهرب من الثالث .

          وقد كان الثوري يقول : أقل من معرفة الناس .

          وقال إبراهيم بن أدهم : لا تتعرف إلى من لا تعرف ، وأنكر من تعرف !


          إني نظرت إلى الزمان     وأهله نظرا كفاني
          فعرفته وعرفتهم     وعرفت عزي من هواني
          [ ص: 649 ] فحملت نفسي بالقناعة     عنهم وعن الزمان
          وتركتها بعفافها     والزهد في أعلى مكان
          فلذاك أجتنب الصديق     فلا أراه ولا يراني
          فتعجبوا لمغالت     وهب الأقاصي والأداني
          وانسل من بين الزحام     فما له في الخلق ثاني



          وفصل الخطاب في هذا : أن الناس على ضربين : عالم وعابد ، فالعالم لا ينبغي له أن ينقطع عن نفع الناس فإنه خلف الأنبياء ، وليعلم أن هداية الخلق أفضل من كل عبادة .

          وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام : " والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " .

          فمتى ما جاء الشيطان فحسن للعالم الانقطاع عن الخلق في الجملة فذاك خديعة منه ، ولقد حسن لكثير من السلف دفن كتبهم ، ومحو علمهم ، وهذا من الخطأ العجيب ، بل ينبغي للعالم أن يعتزل عن شر من يؤذي ، ويبرز لمن يستفيد ، فظهوره أفضل من إخفائه .

          فأما إن كان عابدا فالعابد لا ينافس في هذا ، فإن من القوم من شغلته العبادة ، كما روي أن الحسن رأى رجلا متعبدا ، فأتاه فقال : يا عبد الله ما يمنعك من مجالسة الناس ؟ قال : ما أشغلني عن الناس ، قال : فما منعك أن تأتي الحسن ؟ فقال : ما أشغلني عن الحسن . قال : فما الذي شغلك عن الحسن ؟ قال : إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة ، فرأيت أن أشغل نفسي بالاستغفار للذنب والشكر لله تعالى على النعمة . فقال له : أنت عندي أفقه من الحسن !

          وقال رجل لعامر بن عبد قيس : قف فكلمني . فقال : أمسك الشمس !

          ومن القوم من استغرقته محبة الله تعالى والأنس به ، فاستوحش من الخلق ، قيل لغزوان الزاهد : لو جالست إخوانك ؟ فقال : إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي .


          تعبي راحتي وأنسي انفرادي     وشفائي الضنا ونومي سهادي
          لست أشكو بعاد من صد عني     أي بعد وقد ثوى في فؤادي
          هو يختال بين قلبي وعيني     هو ذاك الذي يرى في السواد



          فهؤلاء عزلتهم أصلح لهم ، بل لا ينبغي أن تشغلهم العزلة عن الجماعات ومجالسة العلماء ، فإن فعلوا كان ذلك من الشيطان ، وإنما نأمر العوام باعتزال الشر فحسب ، فإنه الجهاد في حقهم .

          [ ص: 650 ] واعلم أن السمع يوصل إلى القلب خبر المسموعات ، والبصر خبر المنظورات ، ورب نظرة نقشت في القلب صورة فبعد محوها ، فإن الإنسان ليمشي في الأسواق فيتغير قلبه ، والعزلة توجب السلامة من ذلك ، وقد كان في الصالحين من إذا خرج للسوق فكسب ما يكفيه قام إلى المسجد .

          فالبدار ، البدار إلى حفظ القلوب بالعزلة عن كل ما يؤذي .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية