الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 540 ] المجلس الثاني

          في ذكر السماوات وما فيهن

          الحمد لله الذي رفع السماوات مزينة بزينة النجوم ، ومثبت الأرض بجبال في أقاصي التخوم ، عالم الأشياء بعلم واحد وإن تعدد المعلوم ، ومقدر المحبوب والمكروه والمحمود والمذموم ، لا ينفع مع منعه سعي فكم مجتهد محروم ، ولا يضر مع إعطائه عجز فكم عاجز وافر المقسوم ، اطلع على بواطن الأسرار وعلم خفايا المكتوم ، وسمع صوت المريض المدنف المحروم ، وأبصر وقع القطر في سحاب مركوم وما ننزله إلا بقدر معلوم .

          جل أن تحيط به الأفكار أو تتخيله الوهوم ، وتكلم فكلامه مسموع مقروء مرقوم ، وقضى فقضاؤه إذا شاء إنفاذه محتوم ، وبتقديره معصية العاصي وعصمة المعصوم ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم .

          قضى على الأحياء بالممات ، فإذا بلغت الحلقوم فات المقصود المرام وعز المطلوب المروم ، ونقل الآدمي عن جملة الوجود إلى حيز المعدوم وبقي أسير أرضه إلى يوم عرضه والقدوم ، فإذا حضر حسابه نشر كتابه المختوم وجوزي على ما حواه المكتوب وجمعه المرقوم وعنت الوجوه للحي القيوم .

          أحمده حمدا يتصل ويدوم ، وأشهد أنه خالق الأعيان والرسوم ، وأصلي على رسوله محمد صلاة تبلغه على المرفوم ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق على السائل والمحروم ، وعلى عمر المنتصف بين الظالم والمظلوم ، وعلى عثمان المتهجد إذا رقد النؤوم ، وعلى علي الذي حاز الشرف والعلوم ، وعلى عمه العباس سيد الأعمام على الخصوص والعموم .

          قال الله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج .

          خلق الله عز وجل الماء فثار منه دخان فبنى منه السماوات ، قال: قال أبو القاسم بن أبي [ ص: 541 ] برة : السماء بيضاء لكن من بعدها ترى خضراء ، وقال الربيع بن أنس : السماوات أولها موج مكفوف ، والثانية من صخرة ، والثالثة من حديد ، والرابعة من صفر أو نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من ياقوتة حمراء .

          وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة .

          وقال أبو الحسين ابن المنادي : لا اختلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة فإنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدور الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين أحدهما في ناحية الشمال والآخر في ناحية الجنوب ، وكرة الأرض مبنية في وسط كرة السماء كالنقطة من الدائرة .

          وفي حديث العباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة " وكنف كل سماء خمسمائة سنة ، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض .

          قال العلماء : وكذلك الأرضون السبع في كثافتها وبعد ما بين الواحدة والأخرى فذلك مسيرة أربع عشرة ألف سنة ، سوى ما تحت الأرض من الظلمة والنور وما فوق السماوات من الحجب والظلمة إلى العرش ، وهذا على قدر مسير الآدمي الضعيف فأما الملك فإنه يخرق ذلك في ساعة واحدة .

          وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل لما أبرم خلقه فلم يبق غير آدم خلق شمسين من نور عرشه ثم أرسل جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فمحا عنه الضوء وبقي فيه النور " .

          وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشمس تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها " .

          وأصغر النجوم بقدر الدنيا مرات ، وفي السماء السابعة البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ، وبعد السماء السابعة سدرة المنتهى إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها .

          [ ص: 542 ] وبعد هذا الكرسي ، قال صلى الله عليه وسلم : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة " ثم العرش وهو ياقوته حمراء .

          فأما الملائكة ففي أفراد مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور " .

          ومن أعظم الملائكة خلقا حملة العرش وعددهم اليوم أربعة أحدهم على صورة البشر قد وكل بالدعاء لنسل الآدمي ، والآخر على صورة النسر قد وكل بالدعاء لأجناس الطير ، والآخر على صورة الثور قد وكل بالدعاء للنسل البهيمي ، والآخر على صورة السبع قد وكل بالدعاء لأجناس السباع ، فإذا جاءت القيامة زيد فيهم أربعة .

          أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة " .

          أخبرنا عبد الأول بسنده عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول : سبحانك ما أعظمك ربنا ، قال فيرد عليه ، ما يعلم ذلك الذي يحلف بي كاذبا " .

          وقال عبد الله بن سلام : لما خلق الله عز وجل الملائكة واستووا على أقدامهم رفعوا رؤوسهم إلى السماء فقالوا : ربنا مع من أنت ؟ قال : مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه .

          فأما أعمال الملائكة فجمهورهم مشغول بالتعبد كما قال الله سبحانه وتعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده عن مؤرق ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 543 ] " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد " .

          ومن الملائكة موكل بعمل ، فمنهم حملة العرش قد وكلوا بحمله ، وجبريل صاحب الوحي والغلظة فهو ينزل بالوحي ويتولى إهلاك المكذبين ، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة وإسرافيل صاحب اللوح والصور ، وعزرائيل قابض الأرواح وله أعوان وهؤلاء الأربعة هم المقسمات أمرا ، ومنهم كتاب على بني آدم وهم المعقبات ، ملكان في الليل وملكان في النهار .

          أخبرنا هبة الله بن محمد أنبأنا الحسن بن علي ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الملائكة يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فقالوا تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          ومنهم موكل بالشمس ، ومنهم موكل بالقطر ، والرعد صوت ملك يزجر السحاب ، والبرق ضربه إياه بمخاريق . ومنهم موكل بالرياح والأشجار ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة تخرج إلا معها ملك موكل بها .

          ومنهم ملائكة سياحون في الأرض يتتبعون مجالس الذكر ، وملائكة يبلغون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته السلام ، وملائكة موكلون بمكة والمدينة ليمنعوا عنها الدجال إذا خرج .

          ومن الملائكة من هو مشغول بغرس شجر الجنة .

          قال الحسن : إن أحدهم ليفتر فيقال له : ما لك ؟ فيقول : فتر صاحبي عن العمل ، فكان الحسن يقول : أمدوهم رحمكم الله ، وقال كعب : إن في الجنة ملكا يصوغ حلية أهل الجنة منذ يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ! .

          أخبرنا محمد بن ناصر عن صفوان بن عمرو قال : سمعت خالد بن معدان يقول : إن لله عز وجل ملائكة أربعة يسبحون تحت العرش يسبح بتسبيحهم أهل السماوات ، يقول الملك الأول : سبحان ذي الملك والملكوت ، ويقول الثاني : سبحان ذي العزة والجبروت ، ويقول الثالث : سبحان الحي الذي لا يموت .

          [ ص: 544 ] وقال هارون بن رئاب : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم تقول أربعة : سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك ، وتقول الأربعة الأخر : سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك .

          وقال سعيد بن جبير : " أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة " . وقد روينا أن ملكا نصفه من نار ونصفه من ثلج وهو يقول : يا من ألف بين الثلج والنار فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار ، ألف بين عبادك المؤمنين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية