الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          وللعلماء في الذبيح قولان :

          أحدهما : أنه إسماعيل ، قاله ابن عمر وعبد الله بن سلام والحسن البصري وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ويوسف بن مهران والقرظي ، في آخرين .

          والثاني : أنه إسحاق .

          أخبرنا علي بن عبيد الله ، وأحمد بن الحسين وعبد الرحمن بن محمد ، قالوا : أنبأنا عبد الصمد المأمون ، أنبأنا علي بن عمر الحربي ، حدثنا أحمد بن كعب ، حدثنا عبد الله ابن عبد المؤمن ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، [ ص: 116 ] عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الذبيح إسحاق .

          وهذا قول عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبي موسى وأبي هريرة وأنس وكعب ووهب ومسروق ، في خلق كثير ، وهو الصحيح .

          أخبرنا الحسين ، أنبأنا أبو طالب بن غيلان ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا الهيثم بن خلف ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن الحسن بن دينار ، عن علي ابن زيد بن جدعان ، عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سأل داود عليه السلام ربه فقال : إلهي أسمع الناس يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلني رابعا ، فقال : لست هناك إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا إلا اختارني عليه ، وإن إسحاق جاد لي بنفسه ، وإن يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف .

          وأما سبب أمره بذبحه : فروى السدي عن أشياخه ، أن جبريل لما بشر سارة بإسحاق قالت : ما آية ذلك ؟ قال : فأخذ عودا يابسا في يده فلواه بين أصابعه فاهتز خضرا ، فقال إبراهيم : هو لله إذا ذبيح ، فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم فقيل له : أوف بنذرك ، فقال لإسحاق : انطلق نقرب قربانا إلى الله ، وأخذ سكينا وحبلا ، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب بين الجبال فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فقال إسحاق : اشدد رباطي كيلا أضطرب واكفف ثيابي لا ينتضح عليها من دمي فتراه سارة فتحزن ، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي ، وإذا أتيت سارة فاقرأ عليها السلام مني .

          فأقبل عليه إبراهيم يقبله ويبكي ، وربطه وجر السكين على حلقه فلم تذبح السكين ، وقال غيره : انقلبت ، فنودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فإذا بكبش فأخذه وخلى عن ابنه وأكب عليه يقبله ويقول : يا بني اليوم وهبت لي ، ورجع إلى أمه فأخبرها الخبر فقالت : أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني ؟ ! .

          [ ص: 117 ] قال شعيب الجبائي : لما علمت بذلك ماتت في اليوم الثالث .

          وإنما قال : فانظر ماذا ترى أي ما عندك من الرأي ، ولم يقل ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه قال يا أبت افعل ما تؤمر أي ما أمرت .

          فلما أسلما أي استسلما لأمر الله سبحانه ورضيا وفي جواب هذا قولان :

          أحدهما : أن جوابه (ناديناه) والواو زائدة ، قاله الفراء .

          والثاني : أنه محذوف تقديره : سعد وأثيب .

          قوله تعالى : وتله للجبين قال ابن قتيبة : صرعه على جبينه فصار أحد جبينيه على الأرض وهما جبينان والجبهة بينهما وناديناه قال المفسرون : نودي من الجبل : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وفيه قولان :

          أحدهما : قد عملت بما أمرت به ، وذلك أنه قصد الذبح بما أمكنه ، فطاوعه الابن بالتمكين من الذبح ، إلا أن الله صرف ذلك كما شاء ، فصار كأنه ذبح وإن لم يقع الذبح .

          والثاني : أنه رأى في المنام معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم ، فلما فعل في اليقظة ما رأى في المنام قيل له : قد صدقت الرؤيا وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري : قد "صدقت الرؤيا" بتخفيف الدال .

          إنا كذلك أي كما ذكرنا من العفو عن ذبح ولده ، كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفيه قولان :

          أحدهما : النعمة البينة وهو العفو عن الذبح .

          والثاني : الاختيار العظيم ، وهو امتحانه بالذبح وفديناه بذبح وهو بكسر الذال اسم ما ذبح وبفتحها مصدر ذبحت ، والمعنى : خلصناه من الذبح بأن جعلنا الذبح فداء له .

          وفي هذا الذبح ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنه كان كبشا أقرن قد رعى في الجنة قبل ذلك أربعين عاما ، قاله ابن عباس في رواية مجاهد ، وقال في رواية سعيد بن جبير : هو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه ، كان في الجنة حتى فدي به .

          [ ص: 118 ] والثاني : أن إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين ، رواه الطفيل عن ابن عباس .

          والثالث : أنه كان ذكرا من الأروى أهبط عليه من ثبير قاله الحسن .

          وفي قوله عظيم قولان :

          أحدهما : لأنه قد رعى في الجنة ، قاله ابن عباس ، والثاني : أنه متقبل ، قاله مجاهد ، قال وهب بن منبه : كان ذلك بإيلياء من أرض الشام .

          سبحان المفاوت بين الخلق ! يقال للخليل : اذبح ولدك ، فيأخذ المدية ويضجعه للذبح ، ويقال لقوم موسى : " اذبحوا بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون ! .

          ويخرج أبو بكر من جميع ماله ، ويبخل ثعلبة بالزكاة ! ويجود حاتم بقوته ، ويبخل بضوء ناره الحباحب .

          وكذلك فاوت بين الفهوم ، فسحبان أنطق متكلم ، وباقل أقبح من أخرس .

          وفاوت بين الأماكن فزرود تشكو العطش ، والبطائح تصيح : الغرق .

          قال علماء السير : لم يمت إبراهيم حتى نبئ إسحاق وبعث إلى أرض الشام وكان إبراهيم قد زوج إسحاق أروقة بنت بتاويل ، فولدت له العيص ويعقوب ، وهو ابن ستين سنة ، فأما العيص فتزوج بنت عمه إسماعيل ، فولدت له الروم ، فكل بني الأصفر من ولده وكثر أولاده حتى غلبوا الكنعانيين بالشام وصاروا إلى البحر والسواحل وصار الملوك من ولده وهم اليونانية .

          وأما يعقوب فتزوج ليا فولدت أكثر أولاده ، ثم تزوج راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، وعاش إسحاق مائة وستين سنة ، وتوفي بفلسطين ودفن عند أبيه إبراهيم .

          إخواني : تأملوا عواقب الصبر ، وتخايلوا في البلاء نور الأجر ، فمن تصور زوال المحن وبقاء الثناء هان الابتلاء عليه ، ومن تفكر في زوال اللذات وبقاء العار هان تركها عنده ، وما يلاحظ العواقب إلا بصر ثاقب .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية