الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          سجع على قوله تعالى

          إن الأبرار لفي نعيم

          ما أشرف من أكرمه المولى العظيم ، وما أعلى من مدحه في الكلام القديم ، وما أسعد من خصه بالتشريف والتعظيم ، وما أقرب من أهله للفوز والتقديم ، وما أجل من أثنى عليه العزيز الرحيم إن الأبرار لفي نعيم .

          نعموا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة ، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة ، [ ص: 192 ] وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة ، ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة ، وداموا في الدنيا على السهر والمجاعة ، فيا فخرهم إذا قامت الساعة ، وقد قربت إليهم مطايا التكريم إن الأبرار لفي نعيم .

          نعموا في الدنيا بالوحدة والخلوة ، واعتذروا في الأسحار من زلة وهفوة ، وحذروا من موجبات الإبعاد والجفوة ، فأولئك هم المختارون الصفوة ، الصدق قرينهم والصبر نديم إن الأبرار لفي نعيم .

          حرسهم مولاهم من موجبات الشين ، وحفظهم من جهل وعيب ومين ، وأراهم محجة الهدى رأي العين ، وأزال في وصالهم قاطع الجفاء وعارض البين ، وكمل لهم جميع المآثر كمال الزين ، وكشف عن قلوبهم أغطية الهوى وحجب الغين ، فقاموا بالأوامر على غاية الوفا في قضاء الدين ، واعتذروا بعد الأذى وقبل الغريم إن الأبرار لفي نعيم .

          طال ما تعبت أجسامهم من الجوع والسهر ، وكفت جوارحهم عن اللهو والأشر ، وحبسوا أعراضهم عن الكلام والنظر ، وانتهوا عما نهاهم وامتثلوا ما أمر ، وتقبلوا مفروضاته بالسمع والبصر ، وتغنوا بكلامه والقلب قد حضر ، واستعدوا من الزاد ما يصلح للسفر ، فالخوف يقلقهم فيمنعهم قضاء الوطر ، والعبرة تجري والقلب قد اعتبر ، فيا حسنهم في جوف الليل ووقت السحر ، السر صاف والحال مستقيم إن الأبرار لفي نعيم .

          جن الظلام فزمت مطاياهم ، وجاء السحر فتوفرت عطاياهم ، وكثر الاستغفار فحطت خطايهم ، وكلما طلبوا من فضل سيدهم أعطاهم ، فسبحان من اختارهم من الكل واصطفاهم ، وخلصهم بالإخلاص من شوائب الكدر وصفاهم ، فليس المقصود من الخلق بالمحبة سواهم ، أزعجتهم عواصف المخافة فتداركهم من الرجاء نسيم إن الأبرار لفي نعيم .

          قصورهم في الجنان عالية ، وعيشهم في القصور صافية ، وهم في عفو ممزوج بعافية ، وقطوف الأشجار من القوم دانية ، وأقدامهم على أرض من المسك ساعية ، وأبدانهم من السندس والإستبرق كاسية ، والعيش لذيذ والملك عظيم إن الأبرار لفي نعيم .

          رضي عنهم جبارهم ، وأشرقت برضاه دارهم ، وصفت ببلوغ المنى أسرارهم ، فارتفعت من كل وجه أكدارهم ، ووردت في الجنان أشجارهم ، واطردت تحت القصور [ ص: 193 ] أنهارهم ، وترنمت على الورق أطيارهم ، والملائكة تحفهم وتخصهم بالتسليم ، والعيون تجري من رحيق وتسنيم ، والملك قد وصفهم في الكلام القديم إن الأبرار لفي نعيم .

          قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أنا ربكم الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي فهذا محل كرامتي ، فاسألوني ما شئتم ، فيقولون : نسألك رضوانك ، فيقول : رضواني أحلكم داري وأدناكم من جواري .

          وروينا أن الله تعالى يقول لأوليائه في القيامة : " أوليائي طال ما لمحتكم في الدنيا وقد غارت أعينكم وقلصت شفاهكم عن الأشربة وخفقت بطونكم ، فتعاطوا الكأس فيما بينكم وكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية