الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قوله تعالى : ردوها علي أي أعيدوا الخيل فطفق أي أقبل مسحا بالسوق وهي جمع ساق . وفي المراد بالمسح قولان :

          أحدهما : أنه ضربها بالسيف . رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس . مسح أعناقها وسوقها بالسيف . وهو اختيار الجمهور .

          والثاني : أنه كوى سوقها وأعناقها وحبسها في سبيل الله ، حكاه الثعلبي . والعلماء على الأول .

          فإن قيل كيف نختار القول الأول وهي عقوبة لمن لم يذنب على وجه التشفي ، وهذا بفعل الجبارين أشبه منه بفعل الأنبياء ؟ فالجواب : أنه نبي معصوم ، فلم يكن ليفعل إلا ما قد أجيز له فعله ، وجائز أن يباح له ما يمنع منه في شرعنا . على أنه إذا ذبحها كان قربانا ، وأكل لحمها جائز ، فما وقع تفريط .

          قال وهب : لما فعل ذلك شكر الله تعالى له فعله ، فسخر له الريح مكانها .

          قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه بسلب ملكه وألقينا على كرسيه أي على سريره جسدا ، وهو شيطان يقال له صخر ولم يكن ممن سخر له ثم أناب أي رجع عن ذنبه ، وقيل إلى ملكه .

          وفي سبب ابتلائه ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنه كانت له امرأة ، وكانت بين بعض أهلها وبين قوم خصومة ، فقضى بينهم [ ص: 243 ] بالحق ، إلا أنه ود أن لو كان الحق لأهلها . فعوقب إذ لم يكن هواه فيهم واحدا . قاله ابن عباس ، والثاني : أن هذه الزوجة كانت آثر النساء عنده ، فقالت له يوما : إن بين أخي وبين فلانة خصومة ، وإني أحب أن تقضي له . فقال : نعم . ولم يفعل فابتلي لأجل ما قال نعم . قاله السدي . والثالث : أن هذه الزوجة كانت قد سباها فأسلمت ، وكانت تبكي الليل والنهار وتقول : أذكر أبي وما كنت فيه ، فلو أمرت الشياطين أن يصوروا صورته في داري أتسلى بها . ففعل . وكان إذا خرج تسجد له هي وولائدها ، فلما علم سليمان كسر تلك الصورة وعاقب المرأة وولائدها واستغفر ، فسلط الشيطان عليه بذلك . هذا قول وهب .

          وفي كيفية ذهاب الخاتم قولان : أحدهما : أنه كان جالسا على شاطئ البحر فوقع منه . قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والثاني : أن شيطانا أخذه .

          ثم في كيفية أخذه له أربعة أقوال : أحدها : أنه وضعه تحت فراشه ودخل الحمام فأخذه الشيطان فألقاه في البحر . قاله سعيد بن المسيب . والثاني : أن سليمان قال للشيطان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فأعطاه إياه فنبذه في البحر . قاله مجاهد . والثالث : أنه وضعه عند أوثق نسائه في نفسه ، فتمثل لها الشيطان في صورته فأخذه منها . قاله سعيد بن جبير . والرابع : أنه سلمه إلى الشيطان فألقاه في البحر . قاله قتادة .

          وأما الشيطان فإنه ألقي عليه شبه سليمان فجلس على كرسيه وحكم في سلطانه ، إلا أنه كان لا يقدر على نسائه ، وكان يحكم بما لا يجوز ، فأنكره بنو إسرائيل ، فأحدقوا به ونشروا له التوراة فقرؤوا فطار من بين أيديهم حتى ذهب إلى البحر .

          وأما سليمان لما ذهب ملكه انطلق هاربا في الأرض ، فكان يستطعم فلا يطعم فيقول : لو عرفتموني أطعمتموني . فيطردونه ، حتى إذا أعطته امرأة حوتا شقه فوجد الخاتم في بطن الحوت بعد أربعين ليلة ، في قول الحسن ، وقال سعيد بن جبير : بعد خمسين ليلة . فلما لبسه رد الله عليه ملكه وبهاءه وأظله الطير ، فأقبل لا يستقبله إنسي ولا جني ولا طائر ولا حجر ولا شجر إلا سجد له ، حتى انتهى إلى منزله . ثم أرسل إلى الشيطان فجيء به فجعله في صندوق من حديد وأقفل عليه وختم عليه بخاتمه ؛ ثم أمربه فألقي في البحر فهو فيه إلى أن تقوم الساعة .

          قوله تعالى : لا ينبغي لأحد من بعدي إنما طلب هذا الملك ليعلم أنه قد غفر له ويعرف منزلته بإجابة دعائه ، ولم يكن حينئذ في ملكه الريح ولا الشياطين . (والرخاء) اللينة ، مأخوذة من الرخاوة و أصاب . بمعنى قصد .

          [ ص: 244 ] فإن قيل قد وصفت في سورة الأنبياء بأنها عاصفة ، فالجواب : أنها كانت تشتد إذا أراد وتلين إذا أراد ، وكانت الشياطين تغوص في البحر فتستخرج له الدر ؟ وتعمل له الصور ، والجفان : القصع الكبار ، يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ، ويأكل من كل قدر ألف رجل ، وكانت لا تنزل من مكانها .

          فتأملوا إخواني هذا السلطان العظيم كيف تزلزل بالزلل ، واختلت أموره إذ دخل عليه الخلل ، فخطؤه أوجب خروجه من المملكة ، ولقمة آدم كادت توقعه في المهلكة ، فعليكم بالتقوى فإنها سبيل السلامة ، فمن أخطأها أخطأته الكرامة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية