الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 385 ] قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة أي صفتهم . والمعنى : أن صفة محمد وأصحابه في التوراة هكذا .

          فأما قوله : ومثلهم في الإنجيل ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن هذا المثل المذكور أنه مثلهم في التوراة هو مثلهم في الإنجيل . قاله مجاهد . والثاني : أن المتقدم مثلهم في التوراة ، فأما مثلهم في الإنجيل فهو كزرع . قاله الضحاك . والثالث : أن مثلهم في التوراة والإنجيل كزرع . ذكره أبو سليمان الدمشقي .

          قوله تعالى أخرج شطأه أي فراخه . يقال قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا أفرخ فآزره أي ساواه وصار مثل الأم فاستغلظ أي غلظ فاستوى على سوقه وهو جمع ساق .

          وهذا مثل ضربه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده فأيده بأصحابه ، كما قوى الطاقة من الزرع بما نبت منها حتى كثرت وغلظت واستحكمت .

          وفيمن أريد بهذا المثل قولان : أحدهما : أن أصل الزرع عبد المطلب .

          أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري ، أنبأنا محمد بن علي بن الفتح ، أخبرنا الحسين بن شمعون ، أنبأنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد ، حدثنا أبو العباس عيسى بن إسحاق الأنصاري ، حدثنا الحسين بن الحارث بن طليب الهاشمي ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله عز وجل : شطأه قال : أصل الزرع عبد المطلب ، أخرج شطأه : أخرج محمدا صلى الله عليه وسلم فآزره بأبي بكر فاستغلظ بعمر فاستوى ) بعثمان على سوقه علي بن أبي طالب .

          والثاني : أن المراد بالزرع محمد .

          أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز ، أنبأنا أبو عمر الجوهري ، أنبأنا الحسين بن محمد بن عبيد ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله المخزومي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ؛ حدثنا علي بن إبراهيم ، حدثنا الحسين بن علي الهمداني ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، عن الضحاك عن ابن عباس : كزرع قال : الزرع محمد . أخرج شطأه أبو بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي يعجب الزراع قال : المؤمنون : ليغيظ بهم الكفار قال : يقول عمر لأهل مكة : لا يعبد الله عز وجل بعد يومنا هذا سرا .

          قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .

          [ ص: 386 ] واعلم أن فضائل الصحابة على جميع صحابة الأنبياء ظاهرة وكان لسبقهم سببان : أحدهما : خلوص البواطن من الشك بقوة اليقين . وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما سبقكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره " . والثاني : بذل النفوس للمجاهدة والاجتهاد . وقد علم ما جرى لموسى مع أصحابه وعلم صبر صحابتنا .

          ولما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم بدر قال المقداد : والله لو ضربت بطونها حتى تبلغ برك الغماد لتابعناك ، ولا نقول كما قال قوم موسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا .

          وكان أبو طلحة يوم أحد يقول : نحري دون نحرك . وقتل يومئذ زوج امرأة وأبوها وابنها وأخوها فقالت : يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب !

          قال ابن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم .

          وقال ابن عمر : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة ، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ونقل دينه .

          قال أبو زرعة : شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفا من الصحابة ، وشهد معه تبوك سبعون ألفا ، وقبض عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ، ممن روى عنه وسمع منه .

          أخبرنا محمد بن عبد الملك ويحيى بن علي ، قالا أخبرنا ابن المسلمة ، أنبأنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا البغوي ، حدثنا محمد بن عباد المكي ، حدثنا محمد بن طلحة المديني ، عن عبد الرحمن بن سالم بن عبد الله بن عويم بن ساعدة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله اختارني واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا ، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " . تفرد برواية هذا الحديث محمد بن طلحة ، وكان ثقة .

          وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " .

          [ ص: 387 ] أخبرنا هبة الله بن محمد ، أخبرنا الحسن بن علي ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني صدقة بن يسار ، عن عقيل بن جابر ، عن جابر بن عبد الله فيما يذكر من اجتهاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فغشينا دارا من دور المشركين فأصبنا امرأة رجل منهم ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا وجاء صاحبها وكان غائبا فذكر له مصابها فحلف لا يرجع حتى يهريق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دما .

          فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق فنزل في شعب من الشعاب وقال : من رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا : نحن يا رسول الله . قال فخرجا إلى فم الشعب دون العسكر . ثم قال الأنصاري للمهاجري : أتكفيني آخره وأكفيك أوله ؟ قال فقال المهاجري : بل اكفني أوله وأكفيك آخره . فنام المهاجري وقام الأنصاري فافتتح سورة من القرآن ، فبينا هو فيها يقرأها جاء زوج المرأة فلما رأى الرجل قائما عرف أنه ربيئة القوم ، فنزع له السهم فيضعه فيه . قال : فينزعه فيضعه وهو قائم يقرأ في السورة التي هو فيها ولم يتحرك كراهية أن يقطعها ، قال : ثم عاد له زوج المرأة الثالثة بسهم فوضعه فيه ، ثم ركع وسجد ثم قال لصاحبه : اقعد فقد أثبت . قال : فجلس المهاجري فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به ، وأن الأنصاري يفوح دما من رميات صاحب المرأة قال فقال له أخوه : يغفر الله لك ! ألا كنت آذنتني أول ما رماك ؟ قال : فقال : كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي فيها ، فكرهت أن أقطعها ، وايم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها .

          فسبحان من خصهم بهذه الفضائل وحرسهم من القصور والرذائل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية