الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قال ابن عباس : لما أسلم عمر كبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد ، وقال : يا رسول الله ، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال : بلى والذي نفسي بيده ، قال : ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن ، قال عمر : فأخرجناه في صفين ، حمزة في أحدهما وأنا في الآخر له كديد ككديد الطحين ، حتى إذا دخلنا المسجد نظرت قريش إلى حمزة وعمر فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها ، قال : فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق ، وفرق الله بي بين الحق والباطل .

          قال ابن مسعود : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر .

          وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ؟ فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ ص: 340 ] وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب ، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة عليه فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية .

          وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا لعمر بن الخطاب ، فذكرت غيرتك فوليت مدبرا " فبكى عمر وقال : أعليك أغار يا رسول الله .

          وفيهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر : " والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك غير فجك " .

          قال ابن مسعود : لقي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الشيطان في زقاق من أزقة المدينة فدعاه الجني إلى الصراع فصرعه الإنسي ، فقال : دعني ، ففعل ، فقال : هل لك في المعاودة ففعل فصرعه فجس على صدره ، فقال : ما الذي يعيذنا منكم ؟ قال : آية الكرسي ، فقال رجل لابن مسعود ؟ من ذاك الرجل أعمر هو ؟ فعبس وبسر وقال : ومن عسى أن يكون إلا عمر ! .

          وفي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عمر سراج أهل الجنة " .

          وفي حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل جعل الحق على لسان عمر وقلبه " وفي حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أشد أمتي في أمر الله عمر " .

          وفي حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم قال : جاء جبريل عليه السلام فقال أقرئ عمر السلام وأخبره أن رضاه عز وغضبه حلم .

          وفي حديث علي عليه السلام أنه قال : اتقوا غضب عمر إذا غضب فإن الله يغضب إذا غضب .

          وفي حديث عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو كان بعدي نبي لكان عمر " .

          [ ص: 341 ] كان عمر رضي الله عنه جدا كله وكان يقدم على صاحب الشريعة وينبسط فيحتمله ، لعلمه بصحة قصده .

          فمن ذلك : أنه أراد أن يصلي على ابن أبي فوقف في صدره وقال : أتصلي عليه ؟ ! .

          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأبي هريرة : اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه فبشره بالجنة ، فذهب فلقيه عمر فأخبره الخبر فضرب بين ثدييه حتى خر وقال : ارجع فرجع ، فقال : يا رسول الله ، إني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون ، قال : فخلهم .

          وفي حديث عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألت جبريل فقلت : أخبرني عن فضائل عمر ؟ فقال : لو كنت معك ما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ما نفدت فضائل عمر ، وإن عمر حسنة من حسنات أبي بكر " رضي الله عنهما .


          تحدث ولا تخرج بكل عجيبة عن البحر أو تلك الخلال الزواهر     ولا عيب في أخلاقه غير أنها
          فرائد در ما لها من نظائر     يقر لها بالفضل كل منازع
          إذا قيل يوم الجمع هل من مفاخر

          قويت شدة عمر في الدين فصلبت عزائمه ، فلما حانت الهجرة تسللوا تسلل القطا واختال عمر في مشية الأسد ، فقال عند خروجه : ها أنا أخرج إلى الهجرة ، فمن أراد لقائي فليلقني في بطن هذا الوادي .

          لما ولي الخلافة شمر عن ساق جده فكظم على هوى نفسه ، وحمل في الله فوق طوقه .


          متيقظ العزمات مذ نهضت به     عزماته نحو العلى لم يقعد
          ويكاد من نور البصيرة أن يرى     في يومه فعل العواقب في غد

          نبذ الدنيا من وراء ظهره فتخفف من الأثقال لأجل السباق ، كان يخطب وفي إزاره ثنتا عشرة رقعة ، كف كفه عن المال زاهدا فيه حتى أملق أهله .

          رأى يوما صبية تمشي في السوق والريح يلقيها لضعفها ، فقال : من يعرف هذه ؟ فقال ابنه عبد الله : هذه إحدى بناتك ، قال : أي بناتي ؟ قال : بنت عبد الله بن عمر ، قال : فما بلغ بها ما أرى ؟ قال : إمساكك ما عندك ، قال : إمساكي ما عندي يمنعك أن تطلب لبناتك ما يطلب الناس ؟ أما والله ما لك عندي إلا سهمك مع المسلمين وسعك أو عجز عنك ، بيني وبينكم كتاب الله ! .

          [ ص: 342 ]

          عف عن الدنيا وقد تزخرفت     ممكنة وإعافها وقد قدر
          محكم في الناس يقضي بينهم     بمحكم الآي ومنصوص السور
          حدثت عنه مثل ما تحدثت     عن كرم الأغصان حلواء الثمر

          وفي أفراد البخاري أنه قسم مروطا بين نساء المدينة فبقي منها مرط جيد فقال له بعض من عنده : يا أمير المؤمنين أعط هذا المرط ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عندك ، يريدون أم كلثوم بنت علي ، قال : أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تزفر لنا القرب يوم أحد .

          ورآه طلحة يدخل بيتا فلما أصبح دخل طلحة ذلك البيت فرأى عجوزا عمياء مقعدة فقال : ما صنع عندك ذلك الرجل ؟ فقالت : إنه يتعاهدني منذ كذا ويأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى ، فقال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ! أعثرات عمر تتبع .

          وروى ثابت عن أنس قال : بينما عمر يعس بالمدينة إذ مر برحبة من رحابها فإذا هو ببيت من شعر ، فدنا منه ، فسمع أنين امرأة ورأى رجلا قاعدا ، فدنا منه فسلم عليه ثم قال : من الرجل ؟ فقال : رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله ، قال : فما هذا الصوت في هذا البيت ؟ قال : امرأة تمخض ، قال : هل عندها أحد ؟ قال : لا ، فانطلق حتى أتى منزله فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي : هل لك في أجر ساقه الله إليك ؟ قالت : وما هو ؟ قال : امرأة غريبة تمخض ليس عندها أحد ، قالت : نعم إن شئت ، قال : فخذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب ، فجاءت به فقال : انطلقي ، وحمل البرمة ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت فقال لها : ادخلي إلى المرأة وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له : أوقد لي نارا ، ففعل فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها وولدت المرأة ، فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام ، فلما سمع الرجل بأمير المؤمنين هابه فجعل يتنحى عنه ، فقال : مكانك كما أنت ، فحمل البرمة عمر رضي الله عنه فوضعها على الباب ثم قال : أشبعيها ، ففعلت ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب فقام عمر فأخذها فوضعها بين يدي الرجل فقال : كل ، ويحك فإنك قد سهرت من الليل ، ففعل ، ثم قال لامرأته اخرجي ، وقال للرجل إذا كان غد فائتنا نأمر لك بما يصلحك ، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه .

          وكان يقول : لو مات جدي بطف الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر .

          [ ص: 343 ] وكان في وجهه خطان أسودان مثل الشراك من البكاء ، وكان يمر بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط ويبقى في البيت حتى يعاد للمرض ، وكان يصوم الدهر .

          قالت عائشة رضي الله عنها : إذا شئتم أن يطيب المجلس فعليكم بذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه .


          كل يوم مجد وفخر يشاد     وطريف من المنى وتلاد
          وكرام من المساعي حسان     عجزت عن طلابها الحساد
          همم دونها الكواكب تتلو     عزمات للنار فيها اتقاد
          كلما قيل قد دجى ليل خطب     فلرأي الفاروق فيه زناد
          مغرم بالمكارم الغر لما     ضم أبكارها إليه الولاد
          ساهر العين بالعزائم يقظا     ن وقد قيد العيون الرقاد
          قد كفته المناقب المدح إلا     مدحنا من صفاته يستفاد

          ما زال الإسلام قرير العين ما دام مفتوح العين ، كان يقول : والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه .


          وقبض المحل ببسط راحه     أعدى الجهام جودها فهتنا
          أوصافه تملى على مداحه     ما سطر المجد له ودونا
          إذا رواها الدهر في أبياته     طرب إعجابا بها ولحنا
          وإن بها ورقاء ليل غردت     مد إليها كل غصن فننا

          كان عمر بعد أعماله الجميلة يقول عند موته : الويل لعمر إن لم يغفر الله له ! .

          وفي الصحيحين أنه لما توفي قال علي عليه السلام : ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك يا عمر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية