الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم

          قال الزجاج : المعنى إذا ذكرت عظمته وقدرته وما خوف به من عصاه فزعت قلوبهم ، يقال : وجل يوجل وياجل وييجل وييجل .

          وقال السدي : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فينزع عنها .

          كان الحسن يقول : إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى .

          وكان سميط يقول : أتاهم من الله وعيد وقذهم فناموا على خوف وأكلوا على تنغيص .

          وقال سري : أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الفرقى .

          قال أبو طارق : شهدت ثلاثين رجلا ماتوا في مجالس الذكر يمشون بأرجلهم صحاحا إلى المجلس وأجوافهم قريحة ، فإذا سمعوا الموعظة تصدعت قلوبهم فماتوا .

          وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فما أشتهيه .

          [ ص: 319 ] وقيل : صلى زرارة بن أبي أوفى بالناس فقرأ المدثر فلما بلغ : فإذا نقر في الناقور خر ميتا .

          وكان إبراهيم التيمي يذكر وأبو وائل ينتفض انتفاض الطير .

          وقال يوسف بن أسباط : لما أتى ذو القرنين السد قال : دلوني على أعبد رجل فيكم ، قالوا : في هذا الوادي رجل يبكي حتى نبت من دموعه الشجر ، فهبط الوادي فأتاه فوجده ساجدا وهو يقول : إلهي اقبض روحي في الأرواح وادفن جسدي في التراب ، واتركني هملا ا تبعثني يوم الحساب .

          وقال مالك بن دينار : رأيت جويرية تطوف بالبيت وتقوم : يا رب كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها ! يا رب ما كان لك عقوبة إلا بالنار ؟ !

          فما زالت كذلك إلى الصباح .

          يا عجبا تنام عين مع مخافة ، أم كيف تلهو نفس مع ذكر المحاسبة .

          كان داود الطائي يقول : في ظلام الليل همك عطل على الهموم ، وحالف بيني وبين السهاد ، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب .

          وقيل : كان عتبة الغلام طويل البكاء فقيل له : ارفق بنفسك ، فقال : إنما أبكي على تقصيري .

          وقيل لعبد الواحد بن زيد : ما نفهم كلامك من بكاء عتبة فقال : أيبكي عتبة على نفسه وأنهاه أنا ؟ ! لبئس واعظ قوم .

          وكان يزيد بن مرثد دائم البكاء فكانت زوجته تقول : ويحي ما خصصت به من طول الحزن معك ما تقر لي عين .


          ما كان يقرأ واش سطر كتماني لو أن دمعي لم ينطق بتبيان     ماء ولكنه ذوب الهموم وهل
          ماء يولده نيران أحزاني     ليت النوى إذ سقتني سم أسودها
          سدت سبيل امرئ في الحب يلحاني     قد قلت بالجزع لما أنكروا جزعي
          ما أبعد الصبر ممن شوقه داني     عجنا على الربع نستسقي له مطرا
          ففاض دمعي فأرواه وأظماني

          لما خفيت العواقب على المتقين فزعوا إلى القلق واستراحوا إلى البكاء .

          قال مالك بن دينار : وددت أن الله عز وجل أذن لي يوم القيامة إذا وقفت بين يديه أن أسجد سجدة فأعلم أنه قد رضي عني ثم يقول يا مالك كن ترابا .

          [ ص: 320 ]

          قد أوبقتني ذنوب لست أحصرها     فاجعل تغمدها من بعض إحسانك
          وارفق بنفسي يا ذا الجود إن جهلت     مقدار زلتها مقدار غفرانك

          أعقل الناس محسن خائف ، وأحمق الناس مسيء آمن .

          كان بشر الحافي لا ينام الليل ويقول : أخاف أن يأتي أمر الله وأنا نائم .


          وكلما هم بذوق الكرى     صاح به الهجران قم لا تنم

          ذكرت نفوس القوم العذاب فأنت ، وتفكرت في شدة العتاب فأرنت ، تذكرت ما جنت مما تجنت فجنت ، أزعجها الحذر ولولا الرجاء ما اطمأنت ، آه لنفس ضنت بما بذلوه ، ثم رجت ما نالوه ، بئس ما ظنت ، ما نفس سابقت كنفس تأنت .


          طربت لذكرى منك هزت جوانحي     كما يطرب النشوان كأس مدام
          وما ذكرتك النفس إلا أصابها     كلذع ضرام أو كوخز سهام
          وإن حديثا منك أحى مذاقه     من الشهد ممزوجا بماء غمام

          كيف لا يخاف من قلبه بيد المقلب ، من ظن أن عمر يسلم ، من ظن أن برصيصا يكفر ، رب غرس من المنى أثمر ، وكم من مستحصد تلف ، كرة القلب بحكم صولجان التقليب ، إن وقفت الكرة طردت وإن بعدت طلبت ، ليبين سر ، لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ، نادى نادي البعد لا تقنطوا ويقال للمذنبين ويحذركم الله نفسه لما قرب جبريل وميكائيل اهتزت الملائكة فخرا بقرب جنسها من جناب العزة ، فقطع من أغصانها شجرة هاروت ، وكسر غصن ماروت ، وأخذ من لبها كرة وإن عليك لعنتي فتزودت في سفر العبودية زاد الحذر ، وقادت في سبيل معروفها نجب التطوع للمنقطعين ويستغفرون لمن في الأرض .

          نودي من نادي الإفضال : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فسارت نجائب الأعمال إلى باب الجزاء ، فصيح بالدليل : ولولا أن ثبتناك فقال : " ما منكم من ينجيه عمله " .

          رحم الله أعظما طالما نصبت وانتصبت ، جن عليها الليل فلما تمكن وثبت وثبت ، إن [ ص: 321 ] ذكرت عدله ذهبت وهربت ، وإن تصورت فضله فرحت وطربت ، اعترفت إذ نبت عن طاعته أنها قد أذنبت ، وقفت شاكرة لمن لحمها على جوده نبت ، هبت على أرض القلوب عقيم الحذر فاقشعرت وندبت ، فبكت عليها سحائب الرجاء فاهتزت وربت .

          بحسبك أن قوما موتى تحيا بذكرهم النفوس ، وأن قوما أحياء تقسو برؤيتهم القلوب ! رحل القوم وبقيت الآثار في الآثار ، سألوا طلول التعبد عنهم فقالت خلت الديار .


          إذا دمعي شكا البين بينها     شكا غير ذي نطق إلى غير ذي فهم

          جال الفكر في قلوبهم فلاح صوابهم ، وذكروا التوفيق فمحا التذكر إعجابهم ، ومادوا للمخافة فأصبحت دموعهم شرابهم ، وترنموا بالقرآن فأمسى مزهرهم وربابهم ، وكلفوا بطاعة الإله فألفوا محرابهم ، وخدموه مبتذلين في خدمته شبابهم ، فيا حسنهم وريح الأسحار قد حركت أثوابهم ، وحملت قصيص القصص ثم ردت جوابهم .


          نسيم الصبا إن زرت أرض أحبتي     فخصهم عني بكل سلام
          وبلغهم أني رهين صبابة     وأن غرامي فوق كل غرام
          وإني ليكفيني طروق خيالهم     لو أن جفوني متعت بمنام
          ولست أبالي بالجنان وباللظى     إذا كان في تلك الديار مقامي
          وقد صمت عن لذات دهري كلها     ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

          لا يطمعن البطال في منازل الأبطال ، إن لذة الراحة لا تنال بالراحة ، من زرع حصد ومن جد وجد .


          وكيف ينال المجد والجسم وادع     وكيف يجاء الحمد والوفر وافر

          أي مطلوب نيل من غير مشقة ، وأي مرغوب لم تبعد على طالبه الشقة ، المال لا يحصل إلا بالتعب ، والعلم لا يدرك إلا بالنصب ، واسم الجواد لا يناله بخيل ، ولقب الشجاع (لا يحصل إلا ) بعد تعب طويل .


          لا يدرك المجد إلا سيد فطن     لما يشق على السادات فعال
          أمضى الفريقين في أقرانه ظبة     والبيض هادية والسمر ضلال
          يريك مخبره أضعاف منظره     بين الرجال ففيها الماء والآل
          لولا المشقة ساد الناس كلهم     الجود يفقر والإقدام قتال
          وإنما يبلغ الإنسان طاقته     ما كل ماشية بالرحل شملال
          إنا لفي زمن ترك القبيح به     من أكثر الناس إحسان وإجمال
          ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته     ما فاته وفضول العيش أشغال

          [ ص: 322 ] سبحان من أيقظ المتقين وخلع عليهم خلع اليقين ، وألحقهم بتوفيقه بالسابقين ، فباتوا في جلباب الجد متسابقين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية