الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الثامن عشر

          في قصة بلعام

          الحمد لله الذي إذا لطف أعان ، وإذا عطف صان ، أكرم من شاء كما شاء وأهان ، أخرج الخليل من آزر ومن نوح كنعان ، يميت ويحيي ويغني ويشقي كل يوم هو في شأن ، يزين بموهبة العلم فإذا لم يعمل به شان ، خلع خلعة العلم على بلعم فلم يصنها ومال بهواه إلى ما عنه ينهى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان أحمده في السر والإعلان ، وأصلي على رسوله محمد الذي انشق ليلة ولادته الإيوان ، وعلى أبي بكر أول من جمع القرآن ، وعلى الفاروق الموصوف بالعدل وكذلك كان ، وعلى التقي الحيي عثمان ، وعلى علي سيد العلماء والشجعان ، وعلى عمه العباس المستسقى به فسال التهتان .

          قال الله تعالى : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها .

          في المشار إليه ستة أقوال :
          أحدها : أنه أمية بن أبي الصلت . قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أنه سيأتي رسول ، ورجا أن يكون هو ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده وكفر .

          والثاني : أبو عامر الراهب . قال ابن عباس : الأنصار تقول : إنه أبو عامر .

          والثالث : أنه كان رجل من بني إسرائيل ، أعطي ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة دميمة ، فقالت له : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة فدعا لها فرغبت عن زوجها ، فدعا عليها أن يجعلها كلبة نباحة ، فجاء بنوها وقالوا : لا صبر لنا على تعيير الناس لنا بأمنا ، فدعا أن تكون كما كانت ، فذهبت الثلاث دعوات . رواه عكرمة عن ابن عباس .

          والرابع : أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، قاله عكرمة .

          والخامس : أنه المنافق . قاله الحسن .

          والسادس : أنه بلعام ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي وهو المشهور والأثبت .

          وفي الآيات التي أوتيها أربعة أقوال : أحدها اسم الله الأعظم . رواه ابن أبي طلحة [ ص: 220 ] عن ابن عباس ، وبه قال ابن جرير ، والثاني : أنها كتاب من كتب الله ، روي عن ابن عباس . والثالث : أنها حجج التوحيد وفهم أدلته . والرابع : أنها العلم بكتب الله تعالى .

          وكان من خبر بلعام : أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه وكانوا كفارا ، وكان هو مجاب الدعوة ، فأتاه قومه فقالوا : هذا موسى قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، ونحن قومك فادع الله عليهم . فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، فكيف أدعو عليهم ؟ فقالوا : ما لنا من مترك . فلم يزالوا يرققونه ويتضرعون إليه حتى افتتن ، فركب حمارة له متوجها إلى عسكر موسى ، فما سار إلا القليل حتى ربضت دابته به فنزل عنها فقربها ، فقالت : ويحك يا بلعام أين تذهب ! ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ، أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم ؟ فلم ينزع عنها وضربها ، فانطلقت به حتى إذا أشرف على عسكر موسى جعل لا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : إنما تدعو علينا . فقال : هذا شيء لا أملكه . إلا أنه دعا ألا يدخل موسى المدينة فوقعوا في التيه ، فقال موسى : اللهم كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه فدعا ، الله أن ينزع منه الاسم الأعظم ، فنزع منه واندلع لسانه فوقع على صدره . فقال لقومه : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والحيلة ، جملوا النساء وأعطوهن السلع وأرسلوهن في العسكر يبعنها ، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها ممن أرادها ، فإنه إن زنى رجل منهم كفيتموهم ! ففعلوا ذلك فوقع رجل منهم على امرأة فأرسل الله تعالى الطاعون على بني إسرائيل حينئذ ، فهلك منهم سبعون ألفا في ساعة واحدة !

          وروى السدي عن أشياخه أن بلعام قال لقومه : لا ترهبوا بني إسرائيل فإنكم إذا خرجتم لقتالهم دعوت عليهم . وكان رغبه فيما عندهم من الدنيا . وقال غيره : خوفه ملكهم فنحت له خشبة ليصلبه عليها ، فدعا عليهم .

          وقوله : فانسلخ منها أي خرج من العلم بها فأتبعه الشيطان أي أدركه فكان من الغاوين يعني الضالين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية