الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس السادس عشر :

          في قصة موسى والخضر عليهما السلام

          الحمد لله جعل العلم للعلماء نسبا ، وأغناهم به وإن عدموا مالا ونشبا ، ولأجله سجدت الملائكة إلا إبليس أبى ، وبحيلة العلم اتكأ إدريس في الجنة واحتبى ، ولطلبه قام الكليم ويوشع وانتصبا ، فسارا إلى أن لقيا من سفرهما نصبا : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، أحمده حمدا يدوم ما هبت جنوب وصبا ، وأصلي على رسوله محمد أشرف الخلائق عجما وعربا ، وعلى أبي بكر الذي أنفق المال وما قلل حتى تخلل بالعبا ، وعلى عمر الذي من هيبته ولى الشيطان وهربا ، وعلى عثمان الذي حيته الشهادة فقال مرحبا ، وعلى علي بن أبي طالب الذي ما فل سيف شجاعته قط ولا نبا ، وعلى عمه العباس العالي نسبه على جبال الشرف والربى .

          قال الله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا .

          معنى الكلام : اذكر يا محمد وإذ قال موسى وهو موسى بن عمران ، لفتاه وهو يوشع بن نون ، وإنما سمي فتاه لأنه كان يلازمه ويأخذ عنه العلم ويخدمه : لا أبرح أي لا أزال ، أي لا أنفك . وليس المراد به لا أزول لأنه إذا لم يزل لم يقطع أرضا . قال الشاعر :


          إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

          أي أثقلتك . ومعنى الآية لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أي ملتقاهما .

          وهو الذي وعده الله تعالى بلقاء الخضر فيه . قال قتادة : بحر فارس وبحر الروم فبحر الروم نحو الغرب وبحر فارس نحو الشرق .

          وفي اسم البلد الذي بمجمع البحرين قولان : أحدهما : إفريقية . قاله أبي بن كعب . والثاني : طنجة . قاله محمد بن كعب القرظي .

          قوله تعالى : أو أمضي حقبا وقرأ الحسن وقتادة حقبا بإسكان القاف وهما لغتان . قال ابن قتيبة : الحقب : الدهر . يقال حقب وحقب ، كما يقال قفل وقفل ، وأكل وأكل ، وعمر وعمر . ومعنى الآية : لا أزال أسير ولو احتجت أن أسير حقبا .

          [ ص: 197 ] فلما بلغا يعني موسى وفتاه مجمع بينهما نسيا حوتهما وكانا قد تزودا حوتا مالحا في مكتل ، فكانا يصيبان منه عند الغداء والعشاء ، فلما بلغا هناك وضع يوشع المكتل فأصاب الحوت بلل البحر فعاش واسترب في البحر ، وقد كان قيل لموسى تزود حوتا مالحا فإذا فقدته وجدت الرجل .

          وكان موسى حين ذهب الحوت قد مضى لحاجة ، فعزم يوشع أن يخبره بما جرى فنسي ، وإنما قيل نسيا توسعا في الكلام ، لأنهما جميعا تزوداه . ومثله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من المالح لا من العذب .

          فاتخذ سبيله في البحر سربا أي مسلكا . قال ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة . وفي حديث أبي بن كعب أن الماء صار مثل الطاق على الحوت .

          فلما جاوزا ذلك المكان أدركهما النصب فدعا موسى بالطعام فقال يوشع : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فيه قولان : أحدهما : نسيت أن أخبرك خبر الحوت . والثاني : نسيت حمل الحوت .

          واتخذ سبيله في هاء الكناية قولان : أحدهما أنها ترجع إلى الحوت . والثاني :

          إلى موسى ، اتخذ سبيل الحوت في البحر ، أي دخل في مدخله فرأى الخضر . فعلى الأول : المخبر يوشع وعلى الثاني المخبر الله عز وجل .

          قال موسى : ذلك ما كنا نبغ أي الذي كنا نطلب من العلامة الدالة على مطلوبنا ، لأنه كان قد قيل له : حيث تفقد الحوت تجد الرجل .

          فارتدا أي رجعا في الطريق التي سلكاها يقصان الأثر . فوجدا عبدا من عبادنا وهو الخضر . قال وهب : اسمه اليسع . وقال ابن المنادي : أرميا .

          وفي تسميته بالخضر قولان : أحدهما : أنه جلس على فروة بيضاء فاهتز ما تحته خضرا . رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والفروة : الأرض اليابسة . والثاني : أنه كان إذا جلس اخضر ما حوله . قاله عكرمة . وقال مجاهد : كان إذا صلى اخضر ما حوله .

          وهل كان نبيا ؟ فيه قولان :

          [ ص: 198 ] قوله تعالى : آتيناه رحمة من عندنا أي نعمة وعلمناه من لدنا أي من عندنا علما قال ابن عباس : أعطي من علم الغيب .

          قال له موسى هل أتبعك وهذا تحريض على طلب العلم وحث على الأدب والتواضع المصحوب ، وإنما قال الخضر : إنك لن تستطيع معي صبرا لأنه كان يعمل بعلم الغيب . والخبر : العلم بالشيء . والمعنى : أنت تنكر ظاهر ما ترى ولا تعلم باطنه . فلما ركبا السفينة قلع الخضر منها لوحا فحشاها موسى بثوبه وأنكر عليه بقوله : أخرقتها والإمر : العجب .

          ثم اعتذر بقوله : لا تؤاخذني بما نسيت وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه نسي حقيقة ، والثاني : أنه من معاريض الكلام ، تقديره : لا تؤاخذني بنسياني الذي نسيت في عمري ، فأوهمه بنسيان هذا الأمر . والثالث : أنه بمعنى الترك . والمعنى : لا تؤاخذني بتركي ما عاهدتك عليه . وترهقني بمعنى تعجلني . والمعنى : عاملني باليسر .

          فلما لقيا الغلام قتله الخضر ، وهل كان بالغا أم لا ؟ فيه قولان . وفي صفة قتله إياه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اقتلع رأسه ، وهو في حديث أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : كسر عنقه . قاله ابن عباس : والثالث : أنه أضجعه وذبحه بسكين . قاله سعيد بن جبير .

          (قال أقتلت نفسا زاكية) وقرأ ابن عامر : زكية . قال الكسائي : فيها وجهان كالقاسية والقسية . وقال أبو عمرو بن العلاء : الزاكية التي لم تذنب . والزكية التي أذنبت ثم تابت . وقال أبو عبيدة : الزاكية في البدن والزكية في الدين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية