الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الثالث

          في ذكر إدريس عليه السلام

          الحمد لله الذي لم يزل عليما عظيما عليا ، جبارا قهارا قادرا قويا ، رفع سقف السماء بصنعته فاستوى مبنيا ، وسطح المهاد بقدرته وسقاه كلما عطش ريا ، وأخرج صنوف النبات فكسا كل نبت زيا ، قسم الخلائق سعيدا وشقيا ، و قسم الرزق بينهم فترى فقيرا وغنيا ، والعقل فجعل منهم ذكيا وغبيا ، ألهم إدريس الاحتيال على جنته فهو يتناول من لذاتها ويلبس حليا ، واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا .

          فهو الذي جاد على أوليائه بإسعاده ، وبين لهم مناهج الهدى بفضله وإرشاده ، ورمى المخالفين له بطرده وإبعاده ، وأجرى البرايا على مشيئته ومراده ، واطلع على سر العبد وقلبه وفؤاده ، وقدر صلاحه وقضى عليه بفساده ، فهو الباطن الظاهر وهو القاهر فوق عباده .

          أحمده على إصداره وإيراده ، حمد معترف له بإنشائه وإيجاده ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تجلو قائلها من رين سواده ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرسل إلى جميع الناس في جميع بلاده .

          صلى الله عليه وعلى أبي بكر حارس الإسلام يوم الردة عن ارتداده ، وعلى عمر الذي نطق القرآن بمراده ، وعلى عثمان مشتري سلع السهر بنقد رقاده ، وعلى علي قامع أعدائه ومهلك أضداده ، وعلى عمه العباس آخذ البيعة ليلة العقبة على مراده .

          اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام ، واحفظنا من الخطايا والآثام ، وارحمنا بفضلك يا ذا الجلال والإكرام ، وانفعني والحاضرين بما يجري على لساني من الكلام برحمتك يا عظيم يا علام .

          قال الله تعالى : واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا إدريس اسمه أخنوخ بن يرد بن مهلاييل ابن قيدار بن أنوش بن شيث ابن آدم ، عليه السلام . [ ص: 47 ]

          قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أول نبي بعث بعد آدم ، وكان يصعد له في اليوم من العمل ما لم يصعد لبني آدم في السنة ، فحسده إبليس وعصاه قومه ، فرفعه الله مكانا عليا ، وأدخله الجنة .

          قال علماء السير : ولد إدريس في حياة آدم ، وقد مضى من عمر آدم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة ، وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة ، فدعا قومه ووعظهم ونهاهم ألا يلابسوا ولد قابيل ، فخالفوه فجاهدهم وسبى منهم واسترق .

          وهو أول من خط بالقلم وخاط الثياب ، ورفع وهو ابن ثلاثمائة وخمس وستين سنة ، وعاش أبوه آدم بعد ارتفاعه مائة وخمسا وثلاثين سنة .

          وفي المكان الذي رفع إليه ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنه في السماء الرابعة ، وفي الصحيحين في حديث مالك بن صعصعة عن النبي في حديث المعراج أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ، وقد روينا أن الجنة في السماء الرابعة .

          والقول الثاني : أنه في السماء السادسة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

          والقول الثالث : أنه في السماء السابعة ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

          وفي سبب رفعه إلى السماء ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنه كان يصعد له من العمل مثل ما يصعد لجميع بني آدم ، فأحبه ملك الموت ، فاستأذن الله تعالى في خلته : فأذن له ، فهبط إليه في صورة آدمي ، وكان يصحبه ، فلما عرفه قال : إني أسألك حاجة ، قال : ما هي ، قال : تذيقني الموت فلعلي أعلم شدته فأكون أشد له استعدادا ، فأوحى الله تعالى إليه : أن اقبض روحه ساعة ثم أرسله ، ففعل ، ثم قال : كيف رأيت الموت ؟ قال : أشد مما بلغني عنه ، وإني أحب أن تريني النار ، فحمله فأراه إياها ، فقال : إني أحب أن تريني الجنة فأراه إياها ، فلما دخلها وطاف فيها قال له ملك الموت : اخرج ، فقال : والله لا أخرج حتى يكون الله عز وجل يخرجني ، فبعث الله عز وجل ملكا يحكم بينهما ، فقال : ما تقول : يا ملك الموت ، فقص عليه ما جرى ، فقال : ما تقول ياإدريس ؟ قال : إن الله تعالى يقول : كل نفس ذائقة الموت وقد ذقته [ ص: 48 ] وقال : وإن منكم إلا واردها وقد وردت ، وقال لأهل الجنة : وما هم منها بمخرجين فوالله لا أخرج حتى يكون الله يخرجني ، فسمع هاتفا من فوقه يقول : بإذني دخل ، وبأمري فعل ، فخل سبيله .

          وهذا معنى ما رواه زيد بن أسلم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          فإن قيل : من أين لإدريس هذه الآيات ؟ فقد أجاب بعض العلماء فقال : كان الله تعالى قد أعلم إدريس وجوب الورود وامتناع الخروج من الجنة فقال ذلك .

          والقول الثاني : أن ملكا من الملائكة استأذن ربه عز وجل أن يهبط إلى إدريس ، فأذن له ، فلما عرفه إدريس قال : هل بينك وبين ملك الموت معرفة ؟ قال : ذاك أخي من الملائكة ، قال : هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت ؟ قال : نعم ، سأقول له فيك فيرفق بك ، اركب بين جناحي ، فركب إدريس فصعد به إلى السماء ، فلقي ملك الموت فعرف أنه يريد أن يسأله كم بقي من عمره فقال الملك لملك الموت : إن لي إليك حاجة ، قال أعلم ما حاجتك ، تكلمني في إدريس ، وقد محي اسمه من الصحيفة ، ولم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين ! فمات إدريس بين جناحي الملك . رواه عكرمة عن ابن عباس .

          والثالث : أن إدريس مشى يوما في الشمس فأصابه وهجها ، فقال : اللهم خفف ثقلها عمن يحملها ، فأصبح الملك الموكل بالشمس وقد وجد من خفتها ما لم يعرف ، فسأل الله تعالى عن ذلك ، فقال : إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها فأجبته ، فقال : يا رب اجمع بيني وبينه واجعل بيننا خلة ، فأذن له فأتاه فكان فيما قال له إدريس : اشفع لي إلى ملك الموت أن يؤخر أجلي ، قال : إن الله تعالى لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، ولكن أكلمه فيك ، فما استطاع أن يفعل فعل .

          ثم حمله الملك على جناحه فوضعه عند مطلع الشمس ، ثم أتى ملك الموت فأخبره ، فقال ليس ذاك إلي ، ولكن إن أحببت أعلمته متى يموت ، فنظر في ديوانه فقال : إنك كلمتني في إنسان ما أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : فإنه هناك ، قال : انطلق فما تجده إلا ميتا .

          روي هذا عن ابن عباس وكعب رضي الله عنهما .

          وقال علماء السير : وكان إدريس قد أوصى قبل رفعه إلى ولده متوشلخ ، وكان ولدا صالحا ، وولد لمتوشلخ لمك ، وولد للمك نوح ، عليه السلام . [ ص: 49 ]

          وكان من الملوك في زمن إدريس طهمورت ملك الأقاليم كلها ، ونفى الأشرار ، وهو أول من كتب بالفارسية واتخذ الخيل والبغال والحمير والكلاب لحفظ المواشي ، واستمرت أحواله على الصلاح : ثم ملك أخوه " جم شيد " وتفسير جم شيد : سيد الشعاع ، سمي بذلك لأنه كان وضيئا جميلا ، فملك الأقاليم كلها وسار السيرة الجميلة ، وابتدع عمل السيوف والسلاح وصنعة القز ، وجعل الناس أربع طبقات : طبقة مقاتلة ، وطبقة فقهاء ، وطبقة كتابا وصناعا وحراثين ، وطبقة خدما ، وعمل أربع خواتيم : خاتما للحرب والشرط وكتب عليه : الأناة ، وخاتما للخراج وجباية الأموال ، وكتب عليه : العمارة ، وخاتما للبريد وكتب عليه : الوحا ، وخاتما للمظالم وكتب عليه : العدل ، فبقيت هذه الرسوم في ملوك الفرس إلى أن جاء الإسلام .

          وألزم من غلبه من أهل الفساد بالأعمال الصعبة من قطع الصخور من الجبال والبناء وعمل الحمامات ، وأخرج من البحار والمعادن ما ينتفع به الناس من الذهب والفضة والجواهر والأدوية ، وأحدث النيروز فجعله عيدا .

          ثم إنه بطر فادعى الربوبية ، فسار إليه بيوراسب ، وهو الضحاك بن الأهيوب ، فظفر به فنشره بمنشار .

          وملك الضحاك الفرس ألف سنة ، وكان يدين بدين البراهمة .

          وبين إدريس ونوح كانت الجاهلية الأولى التي قال الله فيها : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى .

          فتفكروا إخواني في أهل الفساد و في أهل الصلاح ، وميزوا أهل الخسران من أرباب الأرباح ، فيا سرعان عمر يفنيه المساء والصباح ، فتأهبوا للرحيل فيا قرب السراح ، وتفكروا فيمن غرته أفراح الراح ، كيف راح عن الدنيا فارغ الراح ، فالهوى ليل مظلم ، والفكر مصباح .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية