الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فإن قيل : كيف حكم ولم يسمع كلام الآخر ؟ فالجواب : أن الآخر اعترف فحكم عليه باعترافه ، وحذف ذكر ذلك اكتفاء بفهم السامع ، والعرب تقول : أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال . أي فتجرت فكسبت .

          والخلطاء الشركاء وظن أي أيقن وعلم أنما فتناه أي ابتليناه بما جرى له في حق المرأة .

          وفي سبب تنبهه لذلك ثلاثة أقوال : أحدها : أن الملكين أفصحا له بذلك . قال السدي : قال داود للخصم الآخر : ما تقول ؟ قال : نعم أريد أن آخذها منه وأكمل بها نعاجي وهو كاره . قال : إذا لا ندعك ، وإن رمت هذا ضربنا منك هذا وهذا . يشير إلى أنفه وجبهته . فقال له : أنت يا داود أحق أن يضرب هذا منك ، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا واحدة . فنظر داود فلم ير أحدا فعرف ما وقع .

          والثاني : أنهما عرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ، فعلم أنه عني بذلك قاله وهب .

          والثالث : أنه لما حكم بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه وهو يضحك ثم صعد إلى السماء وهو ينظر ، فعلم أن الله ابتلاه بذلك . قاله مقاتل .

          قوله تعالى : وخر راكعا . قال ابن عباس : أي ساجدا فعبر بالركوع عن السجود ، لأنه بمعنى الانحناء . قال المفسرون : بقي في سجوده أربعين ليلة لا يرفع رأسه إلا لوقت صلاة مكتوبة أو حاجة لا بد منها ، ولا يأكل ولا يشرب ، فأكلت الأرض من جبهته ونبت العشب من دموعه ، وهو يقول في سجوده : رب زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب .

          أخبرنا علي بن عبيد الله ، أنبأنا ابن النقور ، أنبأنا عمر بن إبراهيم الكناني ، حدثنا البغوي ، حدثنا داود بن رشيد . حدثنا أبو حفص الأبار ، عن ليث عن مجاهد ، قال كانت [ ص: 232 ] خطيئته في كفه مكتوبة ، قال فسجد حتى نبت من البقل ما وارى أذنيه أو قال رأسه ، ثم نادى : أي رب قرح الجبين وجمدت العين وداود لم يرجع إليه من ذنبه شيء . قال فنودي : أجائع فتطعم أم عار فتكسى ، أم مظلوم فينتصر لك ؟ فلما رأى أنهلم يرجع إليه في ذنبه شيء نحب نحبة فهاج ما ثم .

          أخبرنا عبد الوهاب ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا أبو الحسين بن عبد الجبار ، أنبأنا أبو بكر الخياط ، أنبأنا أبو عبد الله أحمد بن يوسف العلاف ، حدثنا أبو علي بن صفوان ، حدثنا أبو بكر القرشي ، حدثني محمد بن الحسين ، حدثنا عمرو بن جرير ، حدثنا عامر بن يساف ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : بلغنا أنه كان داود مكث قبيل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له منبرا إلى البرية وأمر سليمان مناديا يستقرئ البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والديارات والصوامع والبيع فينادي فيها : ألا من أحب أن يسمع نوح داود فليأت . فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال ، وتأتي الطير من الأوكار ، وتأتي الرهبان من الصوامع والديارات ، وتأتي العذارى من خدورها ، ويجتمع الناس لذلك اليوم ، ويأتي داود عليه السلام حتى يرقى على المنبر ويحيط به بنو إسرائيل كل صف على حدته . قال : وسليمان قائم على رأسه . قال : فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فيموت طائفة من الناس وطائفة من السباع والهوام والوحوش وطائفة من الرهبان والعذارى المتعبدات ، ثم يأخذ في ذكر الموت وأهوال القيامة ثم يأخذ في النياحة فيموت من كل صنف طائفة ، فإذا رأى سليمان ما قد كثر من الموت ناداه : يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الرهبان ومن الوحوش . فيقطع النياحة ويأخذ في الدعاء ويغشى عليه ، فيحمل على سرير فإذا أفاق قال سليمان : ما فعل فلان وفلان ؟ فيقول : ماتوا . فيقوم فيدخل بيت عبادته ويغلق عليه بابه وينادي : أغضبان أنت على داود إله داود ؟ أم كيف قصرت به أن يموت خوفا منك !

          قال علماء السير : كان داود عليه السلام قد اتخذ سبع حشايا من شعر وحشاهن بالرماد ، ثم بكى حتى أنفذها دموعا ، ولم يشرب شرابا إلا ممزوجا بدموع عينيه ، وكان له جاريتان قد أعدهما فكان إذا أتاه الخوف سقط واضطرب فقعدتا على صدره ورجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ، وكان قد نقش خطيئته في كفه لئلا ينساها ، وكان إذا رآها اضطربت يداه .

          [ ص: 233 ] ويقال : لو وزنت دموعه عدلت دموع الخلائق ، ولم يرفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء .

          إخواني : تأملوا عواقب الذنوب ، تفنى اللذة وتبقى العيوب ، احذروا المعاصي فبئس المطلوب ، ما أقبح آثارها في الوجوه والقلوب .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية