الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس السابع :

          في الأخوة والصداقة

          الحمد لله الذي لطف بالبرايا إذ براهم وبر ، وروح أرواح أهل الصلاح براح الفلاح وسر ، واطلع على ضمير من نوى وسر من أسر ، وقدر الأشياء فقضى الخير وقضى الشر ، وأمات وأحيا ، وأفقر وأغنى ، ونفع وضر ، جف القلم بتقديره فمضى الأمر واستقر ، بقدرته تقطع المراكب البحر والمركوب البر ، لطفه عظيم ، وجوده عميم قد استمر " رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبر " سميع يسمع المدنف المضطر ، بصير يرى في دجى الليل الذر ، عليم بانكسار من ندم وإصرار من أصر ، حليم فإن سطا رأيت الأمر الأمر ، ما ألطفه بعبده يدعوه لرفع ما عر فإذا كشفنا عنه ضره مر .

          يمد رواق الظلام ، فإذا لاح الصباح فر ، وينير النهار فإذا انقضى عاد الليل وكر ، فالقمر آية الليل والشمس تجري لمستقر .

          أحمده على إنعام كلما احتلب در ، وأقر بوحدانيته عن دليل قد استقر ، وأصلي على رسوله محمد الذي عمت رسالته البحر والبر ، وعلى صاحبه أبي بكر المنفق حتى تخلل وزر ، وعلى عمر الزاهد فما غره ما غر ، وعلى عثمان الذي ارتفع بالكرم فبر وأبر ، وعلى علي الذي ما أقدم قط ففر ، وعلى عمه العباس المقدم نسبا والفخر قد استقر .

          قال الله تعالى : هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين أيدك بمعنى قواك بنصره ، وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم التأليف : الجمع على ما يشاكل . والمراد بالآية : الأوس والخزرج وهم الأنصار ، وكانت بينهم عداوة في الجاهلية فألف الله عز وجل بينهم ، وهذا من أعجب الآيات ، لأنهم كانوا ذوي أنفة شديدة ، فلو أن رجلا لطم رجلا لقاتلت عنه قبيلته حتى تدرك ثأره ، فآل لهم الإسلام إلى أن يقتل الرجل ابنه وأباه في طاعة الله عز وجل .

          وقد روى أبو الأحوص ، عن ابن مسعود في قوله تعالى : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم قال : هم المتحابون في الله تعالى .

          [ ص: 634 ] اعلم أن المعنى الجامع بين المسلمين الإسلام ، فقد اكتسبوا به أخوة أصلية ، ووجب عليهم بذلك حقوق لبعضهم على بعض .

          وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " .

          وفيهما من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه .

          وفيهما من حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .

          وفي حديث مسلم : لجاره أو لأخيه .

          وفيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حق المسلم على المسلم خمس : يسلم عليه إذا لقيه ، ويشمته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد جنازته إذا مات ، ويجيبه إذا دعاه " .

          وإذا ثبتت هذه الحقوق للاشتراك في الإسلام ، فكلما زادت المخالطة وصفا زادت الحقوق ، مثل القرابة ، والمجاورة ، والضيافة ، والصحبة ، والصداقة ، والأخوة الخاصة في الله عز وجل .

          فأما حق القرابة : فمعلوم : وجوب بر الوالدين ، وتقديم الأم في البر ووجوب صلة الرحم .

          وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحب أن يوسع الله عليه في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه " .

          وأما حق الجار ففي الصحيحين من حديث ابن عمر ، وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .

          [ ص: 635 ] وأما حق الضيف ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .

          وأما حق الصحبة فقال مجاهد : صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني أكثر .

          وأما حق الصداقة فإنها تطلق على ما دون الأخوة ، فالأخوة هي المرتبة العليا ، وإنما تقع الأخوة الصادقة إذا حصل التشاكل بين الأخوين في أصل الوضع ، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " .

          قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله : ومعنى هذا الحديث : الإخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد ، على ما روي أن الله عز وجل خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا وكذا ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت على ائتلاف واختلاف ، فتأتلف الأجساد في الدنيا ، وتختلف على حسب ما وقع في مبدأ الخلقة .

          وفي هذا الحديث دليل على أن الأرواح ليست بأعراض ، وأنها كانت موجودة قبل الأجساد ، وأنها تبقى بعد الأجساد ، ويؤيد هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام : " أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق في ثمر الجنة " .

          وهذه الأخوة الخاصة هي التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، وقد علم أن الأخوة العامة في قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة واقعة قبل عقده ، غير أنه أراد الأمر الخاص .

          وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ، وقد آخى بين خلق كثير ذكرتهم في كتاب التلقيح .

          وهذه الأخوة هي التي توجب المحبة في الله عز وجل ، وهي أوثق عرى الإيمان ، [ ص: 636 ] كذلك روى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله " .

          ومن جملة ثواب المتحابين ما روي في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ، فذكر منهم " رجلين تحابا في الله عز وجل اجتمعا عليه وتفرقا عليه " .

          أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن أبي الحباب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي " .

          انفرد بإخراجه مسلم .

          وبالإسناد عن أبي مسلم الخولاني قال : أتيت مسجد أهل دمشق ، فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ، فقلت لجليس لي : من هذا ؟ قال : هذا معاذ بن جبل ، فجئت من العشي فلم يحضر ، فغدوت من الغد فلم يجيء ، فخرجت فإذا أنا بالشاب يصلي إلى سارية فركعت ، ثم تحولت إليه ، قال فسلم فدنوت منه فقلت : إني أحبك في الله تعالى . قال : فمدني إليه وقال : كيف قلت ؟ قلت : إني أحبك في الله ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله " .

          قال : فخرجت حتى لقيت عبادة بن الصامت فذكرت حديث معاذ بن جبل ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربه عز وجل يقول : " حقت محبتي للمتحابين في ، وحقت محبتي للمتباذلين في ، وحقت محبتي للمتزاورين في ، والمتحابون في الله على منابر من نور في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله " .

          [ ص: 637 ] وفي حديث عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل يقول : حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي ، وحقت محبتي للذين يتصافون من أجلي " .

          وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لله عز وجل عبادا على منابر من نور في ظل العرش يغبطهم الشهداء . قيل : من هم ؟ قال : المتحابون في جلال الله عز وجل " .

          واعلم أن هذا الثواب في هذه المحبة إنما يكون إذا كانت لله تعالى خالصة لا يشوبها شيء من الكدر ، ومتى قويت محبة الله سبحانه وتعالى في القلب قويت محبة أوليائه والصالحين من عباده ، فلينظر الإنسان من يؤاخي ومن يحب ، ولا ينبغي أن يتخير إلا من قد سلم عقله ودينه . وقد قال عليه السلام : " المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل " .

          وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " .

          فإذا أحب شخصا فليعلمه : وروى المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه " .

          وقال عمران بن حطان : لقد أحببت في الله عز وجل ألف أخ كلهم أعرف اسمه ، واسم أبيه ، وقبيلته ، ومكان داره .

          وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير : ما تحاب رجلان في الله عز وجل إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه .

          وكان يقول : اصحب من ذا صحبته زانك ، وإن خدمته صانك ، وإذا أصابتك [ ص: 638 ] خصاصة مانك ، وإن رأى منك حسنة سر بها ، وإن رأى منك سقطة سترها ، ومن إذا قلت صدق قولك ، ومن هو فوقك في الدين ودونك في الدنيا ، وكل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه في دينك خيرا فانبذ عنك صحبته .

          فإذا صفت المحبة وخلصت وقع الشوق والتزاور ، وصار بذل المال أحقر الأشياء ، فأما التزاور فقد ذكرنا فضيلته .

          وقد كان عمر بن الخطاب يذكر الأخ من إخوانه في بعض الليل ، فيقول : يا طولها من ليلة ! فإذا صلى المكتوبة غدا إليه فاعتنقه .

          وقال مجاهد : إذا مشى أحد المتحابين إلى الآخر فأخذ بيده فضحك إليه تحاتت خطاياه كما يتحات ورق الشجر .

          أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، قال أنبأنا أبو بكر الخطيب ، أخبرني عبد العزيز الأزجي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن سليم العلاف عن معروف الكرخي ، قال : امش ميلا صل جماعة ، امش ميلين صل جمعة ، امش ثلاثة أميال عد مريضا ، امش أربعة أميال شيع جنازة ، امش خمسة أميال شيع حاجا أو معتمرا ، امش ستة أميال شيع غازيا في سبيل الله ، امش سبعة أميال بصدقة من رجل إلى رجل ، امش ثمانية أميال أصلح بين الناس ، امش تسعة أميال صل رحما وقرابة ، امش عشرة أميال في حاجة عيالك ، امش أحد عشر ميلا في معاونة أخيك ، امش بريدا والبريد اثنا عشر ميلا - زر أخا في الله عز وجل !

          وأما بذل المال فله ثلاث مراتب : أهونها : المساهمة في المال ، وأوسطها المواساة ، وأعلاها تقديم الأخ في المال على النفس .

          وقد روينا آنفا : " حقت محبتي للمتباذلين في " .

          قال ابن عمر : لقد رأيتنا وما أحدنا بأحق بديناره ، ودرهمه من أخيه المسلم .

          وقال الحسن : كنا نعد البخيل الذي يقرض أخاه !

          وقال : ليس من المروءة أن يربح الرجل على صديقه .

          وقال أبو جعفر الباقر لأصحابه : هل يدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ منه ما يريد ؟ قالوا : لا . قال : فلستم بإخوان .

          وقد كان بعضهم يتلطف في إيصال البر إلى إخوانه فيأتي بالصرة فيها الأربعمائة والخمسمائة فيودعها أحدهم ثم يلقاه بعد فيقول : انتفعوا بها فهي لكم .

          وعلى هذا لا ينبغي للأخ أن يجحف بأخيه فيما يأخذ منه ، وإن علم أنه لا كلفة عليه [ ص: 639 ] في ذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر زمن الهجرة : قد علفت ناقتين فخذ إحداهما فقال : بالثمن .

          هيهات ! رحل الإخوان وأقام الخوان ، وقل أن ترى في الزمان إلا من إذا دعي مان .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية