الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على البسملة


          بينما المرء غافل إذ أتاه من يد الموت سالب لا يصد     فتأهب لما له كل نفس
          عرضة الأسر إنما الأمر جد     خاب من كان همه هذه الد
          نيا فأضحى من نيلها يستمد     فجناها إن أسعدت مستعار
          ليس من رده لمن نال بد     كم أدالت من أهلها وأزالت
          ذا جلال من نعمة لا تحد     بدلته من طيب مغناه فقرا
          عادما ما حوى ولم يغن جد     أين من كان ناعم الوجه أضحى
          ما له من نهاية الحسن ضد     قد محاه ثراه حين حواه
          ووهى معصم وكف وزند     وجفا أنسه أخ كان برا
          وصديق دان وصحب وجند     واستوى في البلى رئيس ومر
          ؤوس وأعيا بالأسر حر وعبد

          يا غافلا قد طلب ، يا مخاصما قد غلب ، يا واثقا قد سلب ، يا حازما قد خلب كأنه به قد قلب ، إياك والدنيا فما الدنيا بمأمونة ، وتزود للسفر فلا بد من مؤونة ، إذا قدرت على الكمال فلا ترض دونه ، واصدق في أمرك تأتك المعونة ، أين المغرورون بغرورها أين المسرورون بسرورها ؟ صاح بهم الموت فأجابوا ، واستحضرهم البلى فغابوا ، ظنوا بلوغ الآمال وتوهموا ، واعتقدوا دوام السلامة فلم يسلموا ، وأعلموا بالرحيل وكأنهم لم يعلموا ، وناولوا أنفسهم أعنة الهوى وسلموا ، كم هتف بهم نذير الفراق فلم يفهموا ، فلما بلغوا منتهى الآجال ولم يظلموا ، خلوا في ألحادهم بما كانوا قدموا .


          ولسنا بأبقى منهم غير أننا     أقمنا قليلا بعدهم وتقدموا

          [ ص: 545 ] أف لنفس تؤثر ما يضيرها ، ما ترعوي وقد مر نظيرها ، ما تصغي إلى المواعظ وقد قال نذيرها ، أما نهاها لما علاها قتيرها ، أما لاح لبصر البصيرة مصيرها ، أما يرجع إلى العقول مستشيرها ، أتقدر على نفس إن تلفت تستعيرها ؟ قل لهذه النفس الجهولة في فعلها ويحها إنما تسعى في قتلها ، أما لها عبر ممن كان قبلها ، كأنها بها تبكي على الأيام كلها ، إذا حانت المنية وبعثت بعض رسلها ، وعبثت يد القاطع بموصول حبلها ، وامتدت كف الأجل إلى عرى الأمل تحلها .


          تساوى الناس في طرق المنايا     فما سلم الصريح ولا الهجين
          تدينا البقاء من الليالي     ومن أرواحنا توفى الديون
          كأنا قد شككنا في المنايا     وعند جميعنا الخبر اليقين

          إخواني : تأملوا العواقب تأمل من يراقب ، وتفكروا في النهاية فعين العقل ترى الغاية ، الموت قريب أمم ، كم أهلك من أمم ، لقد ارتهن الذمم وتشبث باللمم ، فيا من ستخلق منه الرمم أسماع أم صمم ، من ارتحل بغير الطبع حسن وحزم ، من علم شرف المطلوب جد وعزم ، إنما يكون الاجتهاد على قدر الهمم ، إنما ينافس في المطلوب على حسب القيم :


          وحب دنياك طبع في المقيم بها     وقد منيت بقرن منه غلاب
          لما رأيت سجايا الدهر ترحضني     رددت قدري إلى صبري فأغلى بي
          والعقل يسعى لنفسي في مصالحها     فما لطبع إلى الآفات جذاب
          احذر من الناس أدناهم وأبعدهم     وإن لقوك بتبجيل وترحاب
          كلمت باللحن أهل اللحن أونسهم     لأن عيبي عند القوم إعرابي
          عند الفراقد أسراري مخبأة     إذ لست أرضى لآرابي بآراب

          أيها الشاب تدبر أمرك فإنك في زمن الربح ووقت البذر وإبان الفضائل ، احذر أن يخدعك العدو عن نفيس هذا الجوهر فتنفقه بكف التبذير ، تالله لئن فعلت لتغرسن بذلك شجرة الندامة فيتساقط عليك من كل فنن منها فن حسرة ، واعرف قدر ما تؤمن به هذا الجوهر من الفضائل ، واحذر من اختلاس العدو له ، فصابر فكأن قد انقضى الموسم .

          واعلم أن الشيطان يراصدك ليفتنك وقوة الطبع له عليك ، والشباب شعبة من الجنون ، فاكسر عادية الهوى بوهن أسبابه .

          وقال أبو موسى : طوبى لمن وقي شر شبابه ، وقال أبو بكر بن عياش : وددت أنه صفح لي عما كان في الشباب وأن يدي قطعت ! .

          [ ص: 546 ] واعلم أنه لما كان جهاد الشباب ومخالفة الطبع صعبا صار الشاب التائب حبيب الله عز وجل .

          إخواني : من رأى التناهي في المبادي سلم ، ومن لم ير العواقب شغله ما هو فيه عما بين يديه .

          يا هذا : أما ما قد مضى من ذنوبك فليس فيه حيلة إلا التدارك ، فرب مدرك لما فات ، الأسى بالأسى ، وأنا أضرب لك مثلا لتحذر فيما بعد جنس ما كان قبل : إذا راقت الحلواء لمحموم اعترك الهوى والعقل فالهوى ينظر إلى العاجل والعقل يتلمح العواقب ، فإن آثر مشورة العقل منع نفسه عما تشتهي نظرا إلى ما إليه الصبر ينتهي ، فإذا زالت حماه تناول من غير أذى ما اشتهاه ، وإن اجتذبه رائق المشتهى فأنساه المنتهى تمتع يسيرا ببلوغ الغرض فزاد به ذلك المرض ، وربما ترقى إلى الموت ولا تدارك بعد الفوت ، فيا عجبا لمختار العاجل وهو يعلم ندمه في الآجل ، لقد ضيع موهبة العقل الذي به شرف الآدمي ، وزاحم البهائم في مقام النظر إلى الحاضر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية