الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا وهو البر والإكرام إما يبلغن قال الفراء : جعلت يبلغن فعلا لأحدهما وكرر عليه كلاهما وقرأ حمزة والكسائي : " يبلغان " على التثنية ، لأنهما قد ذكرا قبل ذلك ، ثم قال : أحدهما أو كلاهما على الاستئناف كقوله فعموا وصموا ثم استأنف فقال : كثير منهم .

          فلا تقل لهما أف أي لا تقل لهما كلاما تتبرم فيه بهما إذا كبرا : قال ابن منصور اللغوي : أصل أف نفخك الشيء يسقط عليك من تراب أو نحوه ، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه ، فقيلت لكل مستقل .

          قوله تعالى : ولا تنهرهما أي لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما ، قال عطاء بن أبي رباح : لا تنفض يدك عليهما ، قال العلماء : إنما نهى عن الأذى لهما في حالة الكبر وإن كان منهيا عنه في كل حال ، لأن حال الكبر يظهر فيها منهما ما يضجر ويؤذي ، وتكثر خدمتهما .

          وقل لهما قولا كريما أي لينا لطيفا أحسن ما تجد ، وقال سعيد بن المسيب : قول العبد المتذلل للسيد الفظ .

          واخفض لهما جناح الذل أي ألن لهما جانبك متذللا لهما من رحمتك إياهما . وخفض الجناح عبارة عن السكون وترك التصعب والإيذاء وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا أي مثل رحمتهما إياي في صغري حين ربياني .

          أخبرنا هبة الله بن محمد أنبأنا الحسن بن علي ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، أنبأنا عبد الله [ ص: 158 ] بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا مسعر وسفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي العباس المكي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحي والدك ؟ " قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          وبالإسناد حدثنا وكيع ، قال حدثنا سفيان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه .

          أخبرنا علي بن عبد الله بن أحمد بن الحسن ، وعبد الرحمن بن محمد ، قالوا حدثنا عبد الصمد بن المأمون ، أنبأنا علي بن عمر السكري ، حدثنا محمد بن علي بن حرب ، حدثنا سليمان بن عمر ، حدثنا عيسى بن يونس . ح . وأنبأنا علي بن عبد الله ، ومحمد بن عبد الباقي ، أنبأنا أبو محمد الصريفيني ، أنبأنا أبو حفص الكناني ، أنبأنا أبو عبد الله بن مخلد ، حدثنا يونس بن يعقوب ، حدثنا علي بن عاصم . ح . وأنبأنا محمد بن عبد الباقي ، أنبأنا أبو إسحاق البرمكي ، حدثنا أبو محمد بن ماسي ، أنبأنا أبو مسلم الكجي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري ، عن أبيه عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك ، قلت : ثم من ؟ قال : أمك ، قلت : ثم من ؟ قال : أمك ، ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب .

          أخبرنا عمر بن ظفر ، أنبأنا أبو غالب الباقلاوي ، أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي ، أنبأنا أبو نصر النيازكي ، أنبأنا أبو الخير الكرماني ، حدثنا البخاري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا محمد بن أبي جعفر بن أبي كثير ، أخبرني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال : إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني ، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه فغرت عليها فقتلتها ، فهل من توبة ؟ قال : أمك حية ؟ قال : لا ، قال : تب إلى الله عز وجل وتقرب إليه ما استطعت ، فسألت ابن عباس : لم سألته عن حياة أمه ؟ قال : إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة .

          وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال : السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته فتقول : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، فيقول : [ ص: 159 ] رحمك الله كما ربيتيني صغيرا ، فتقول : رحمك الله كما بررتني كبيرة ، وإذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك .

          وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر من كان في هذه الأمة بأمهما : عثمان بن عفان وحارثة بن النعمان رضي الله عنهما .

          أما عثمان فإنه قال : ما قدرت أتأمل وجه أمي منذ أسلمت ، وأما حارثة فكان يطعمها بيده ولم يستفهمها كلاما قط تأمره به حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج : ماذا قالت أمي ؟ .

          وكان حجر بن عدي بن الأدبر يلتمس فراش أمه بيده فيتهم غلظ يده ، فينقلب عليه على ظهره ، فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها .

          وكان ظبيان بن علي من أبر الناس بأمه ، فباتت ليلة وفي صدرها عليه شيء فقام على رجليه قائما يكره أن يوقظها ويكره أن يقعد ، حتى إذا ضعف جاء غلامان من غلمانه فما زال معتمدا عليهما حتى استيقظت من قبل نفسها .

          وكان محمد بن سيرين لا يكلم أمه بلسانه كلمة تخشعا لها ، وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه : ضعي قدمك عليه ! وقال ابن المنكدر : بت أغمز رجل أمي وبات أخي عمر يصلي ، وما يسرني أن ليلتي بليلته !

          وروينا عن ابن عون أن أمه نادته فأجابها ، فعلا صوته على صوتها فأعتق رقبتين .

          وقال بشر الحافي : الولد يقرب من أمه بحيث يسمع أمه أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله ، والنظر إليها أفضل من كل شيء ! .

          وفي الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في الكبائر عقوق الوالدين ، وفيهما من حديث جبير بن مطعم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يدخل الجنة قاطع قال سفيان : قاطع رحم .

          وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة عاق .

          وقال محمد بن محيريز : من مشى بين يدي أبيه فقد عقه إلا أن يمشي فيميط الأذى عن طريقه ، ومن دعا أباه باسمه أو بكنيته فقد عقه إلا أن يقول يا أبت .

          [ ص: 160 ] وفي حديث أبي أسيد أن رجلا قال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء بعد موتهما ؟ قال نعم ، خصال أربع : الدعاء والاستغفار لهما ، وإيفاء عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما .

          وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبر البر صلة المرء أهل ود أبيه بعد أن توفي .

          أخبرنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن المذهب ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، أنبأنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، عن زيان ، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم " قيل له : من أولئك يا رسول الله ؟ قال " متبرئ من والديه راغب عنهما ، ومتبرئ من ولده ، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم " .

          وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل : يا رسول الله ، وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية