الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 300 ] المجلس السادس والعشرون

          في قصة أهل الكهف

          الحمد لله الذي لا يتأثر بالمدى ، ولا يتغير أبدا ، لم يزل واحدا أحدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، اختار من شاء فنجاه من الردى ، أنقذ أهل الكهف وأرشد وهدى ، وأخرجهم بقلق راح بهم وغدا ، فاجتمعوا في الكهف يقولون كيف حالنا غدا ، فأراحهم بالنوم من تعب التعبد مددا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى .

          أحمده ما ارتجز حاد وحدا ، وأصلي على محمد أشرف متبوع وأفضل مقتدى ، وعلى أبي بكر المتخذ بإنفاقه عند الإسلام يدا ، وعلى عمر العادل الذي ما جار في ولايته ولا اعتدى ، وعلى عثمان الصابر في الشهادة على وقع المدى ، وعلى علي محبوب الأولياء ومبيد العدى ، وعلى عمه العباس أشرف الكل نسبا ومحتدا .

          قال الله عز وجل : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا .

          سبب نزولها :
          أن اليهود سألوا عن أصحاب الكهف فنزلت .

          ومعنى : أم حسبت أحسبت ، والكهف : المغارة في الجبل إلا أنه واسع فإذا صغر فهو غار .

          وفي الرقيم ستة أقوال :

          أحدها : أنه لوح من رصاص كان فيه أسماء الفتية مكتوبة ليعلم من اطلع عليهم يوما من الدهر ما قصتهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب ، والثاني : أنه اسم الوادي الذي فيه الكهف ، قاله قتادة والضحاك ، والثالث : أنه اسم القرية التي خرجوا منها ، قاله كعب ، والرابع : أنه اسم الجبل ، قاله الحسن ، والخامس : أن الرقيم الدواة بلسان الروم ، قاله عكرمة ، والسادس : أنه اسم الكلب ، قاله سعيد بن جبير .

          [ ص: 301 ] ومعنى الكلام : أحسبت أن أهل الكهف كانوا أعجب آياتنا ؟ قد كان في آياتنا ما هو أعجب منهم .

          إذ أوى الفتية إلى الكهف أي جعلوه مأوى لهم ، والفتية : جمع فتى ، مثل غلام وغلمة ، والفتى : الكامل من الرجال .

          واختلف العلماء في بدء أمرهم ومصيرهم إلى الكهف على ثلاثة أقوال :

          أحدها : أنهم هربوا ليلا من ملكهم حين دعاهم إلى عبادة الأصنام ، فمروا براع له كلب فتبعهم على دينهم ، فأووا إلى الكهف يتعبدون ، قاله ابن عباس .

          وقال عبيد بن عمير : فقدهم قومهم فطلبوهم ، فعمى الله عليهم أمرهم ، فكتبوا أسماءهم في لوح : فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان ، ووضعوا اللوح في خزانة الملك .

          والثاني : أن أحد الحواريين جاء إلى مدينة أصحاب الكهف فلقيه هؤلاء الفتية فآمنوا به فطلبوا فهربوا إلى الكهف ، قاله وهب بن منبه .

          والثالث : أنهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم ، فخرجوا واجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد ، فقال كبيرهم : إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده ، قالوا : ما هو ؟ قال : إن ربي رب السماوات والأرض ، فتوافقوا فدخلوا الكهف فناموا ، قاله مجاهد .

          قوله تعالى : فضربنا على آذانهم المعنى أنمناهم ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أي ليعلم خلقنا . وأراد بالحزبين المؤمنين والكافرين وكان قد وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم ، ومعنى قاموا : خلوا .

          وكانت الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم وإذا غربت تقرضهم أي تعدل عنهم وفي سبب ذلك قولان : أحدهما : أن كهفهم كان بإزاء بنات نعش . قاله الجمهور .

          والثاني : أن ذلك كان آية ، قاله الزجاج ، والفجوة : المتسع .

          وتحسبهم أيقاظا لأن أعينهم كانت مفتحة وهم نيام لئلا تذوب ، قال ابن عباس : كانوا يقلبون في كل عام مرتين ، ستة أشهر على هذا الجنب وستة أشهر على هذا الجنب ، وقال مجاهد : بقوا على شق واحد ثلاثمائة عام ، ثم قلبوا تسع سنين ، والوصيد : الفناء والباب .

          لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا لأنهم طالت شعورهم وأظفارهم جدا ، قال [ ص: 302 ] وهب : خرج الملك وأصحابه في طلبهم فوجدوهم نياما ، فكانوا كلما أراد أحد أن يدخل أخذه الرعب ، فقال قائل للملك : أليس أردت قتلهم ؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف حتى يموتوا جوعا وعطشا ، ففعل .

          فأما سبب بعثهم فقال عكرمة : جاءت أمة مسلمة ، وكان ملكهم مسلما ، فاختلفوا في الروح والجسد فقال قائل : تبعث الروح وأما الجسد فتأكله الأرض ، وقال قائل : تبعث الروح والجسد ، فشق اختلافهم على الملك فانطلق فلبس المسوح وقعد على الرماد ، ودعا الله تعالى أن يبعث لهم آية تبين لهم ، فبعث الله أهل الكهف .

          وقال وهب : جاء راع قد أدركه المطر إلى الكهف ففتح بابه ليأوي إليه بالغنم ، فرد الله إليهم أرواحهم .

          قال ابن إسحاق : قعدوا فرحين فسلم بعضهم على بعض لا يرون في وجوههم ولا أجسادهم ما ينكرون ، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون أن ملكهم في طلبهم فصلوا وقالوا ليمليخا صاحب نفقتهم : انطلق فاستمع ما نذكر به وابتغ لنا طعاما ، فوضع ثيابه وأخذ ثيابا يتنكر فيها ، وخرج مستخفيا متخوفا أن يراه أحد ، فرأى على باب المدينة علامة تكون لأهل الإيمان ، فخيل إليه أنها ليست بالمدينة التي يعرف ، ورأى ناسا لا يعرفهم ، فجعل يتعجب ويقول : لعلي نائم ، فلما دخلها رأى قوما يحلفون باسم عيسى فأسند ظهره إلى جدار وقال في نفسه : والله ما أدري ما هذا ، عشية أمس لم يكن على الأرض من يذكر عيسى إلا قتل ، واليوم أسمعهم يذكرونه ! لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف ، والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران وأخرج ورقا وأعطاه رجلا وقال : بعني طعاما فنظر الرجل إلى نقشه فجعل يتعجب ، ثم ألقاه إلى آخر فجعلوا يتطارحونه بينهم ويتعجبون ويتشاورون ، وقالوا إن هذا قد أصاب كنزا ، ففرق منهم وظن أنهم قد عرفوه فقال : أمسكوا طعامكم فلا حاجة بي إليه ، فقالوا له : من أنت يا فتى ، والله لقد وجدت كنزا فشاركنا فيه وإلا أتينا بك السلطان ، فلم يدر ما يقولون فطرحوا كساءه في عنقه وهو يبكي ويقول : فرق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت .

          فأتوا به إلى رجلين كانا يدبران أمر المدينة فقالا : أين الكنز الذي وجدت ؟ قال : ما وجدت كنزا ، ولكن هذه ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني ولا ما أقول لكم ، وكان الورق مثل أخفاف الإبل فقالوا له : من أنت وما اسم أبيك ؟ فأخبرهم ، فلم يجدوا من يعرفه فقال له أحدهما : أتظن أنك تسخر منا وخزائن هذه المدينة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ، فإني سآمر بك فتعذب عذابا [ ص: 303 ] شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز ، فقال يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم ، قالوا : سل ، قال : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : لا نعرف على وجه الأرض اليوم ملكا يسمى دقيانوس ، وإنما هذا ملك قد كان منذ زمان طويل ، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال : والله ما يصدقني أحد بما أقول ، لقد كنا فتية وأكرهنا الملك على عبادة الأوثان فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت أشتري لأصحابي طعاما فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي .

          فانطلق معه أهل المدينة ، وكان أصحابه قد ظنوا لإبطائه عليهم أنه قد أخذ ، فبينا هم يتخوفون ذلك إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل ، فظنوا أنهم رسل دقيانوس ، فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض ، فسبق يمليخا إليهم وهو يبكي فبكوا معه وسألوه عن شأنه فأخبرهم خبره وقص عليهم الخبر ، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله تعالى وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث .

          وجاء ملكهم فاعتنقهم وبكى ، فقالوا له : نستودعك الله ونقرأ عليك السلام حفظك الله وحفظ ملكك ، فبينا الملك قائم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله عز وجل نفوسهم وحجبهم بحجاب الرعب ، فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه ، وصار عندهم عيد في كل سنة .

          وقد نبهت قصتهم على أن من فر إلى الله عز وجل حرسه ولطف به وجعله سببا لهداية الضالين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية