الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          وقد خلت النذر أي مضت من قبل هود ومن بعده ، وقوله : لتأفكنا عن آلهتنا أي لتصرفنا عن آلهتنا بالإفك .

          قال إنما العلم عند الله أي هو يعلم متى يأتيكم العذاب فلما رأوه يعني ما يوعدون عارضا أي سحابا يعرض في ناحية السماء .

          وقوم عاد هؤلاء أولاد عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وهي عاد الأولى ، بعث الله تعالى إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، كانوا يعبدون الأوثان فدعاهم إلى التوحيد ، فكلما أنذرهم زاد طغيانهم ، فحبس الله تعالى عنهم القطر ثلاث سنين ، حتى جهدوا فبعثوا إلى مكة وفدا يستسقي لهم ، لهم ، وكانوا سبعين رجلا ، منهم : قيل ونعيم وجلهمة ولقمان بن عاد ومرثد بن سعد ، وكان مرثد مؤمنا يكتم إيمانه وكان الناس مؤمنهم وكافرهم إذا جهدوا سألوا الله تعالى عند الكعبة ، فنزلوا على بكر بن معاوية ، وكان خارجا من الحرم فأكرمهم ، وكانوا أصهاره وأخواله ، وكان سكان مكة العماليق ، أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح ، فجعل بكر يسقيهم الخمر وتغنيهم الجرادتان شهرا ، فلما رأى بكر طول مقامهم عنده قال : هلك أخوالي وأصهاري ، هؤلاء ضيفي ، فما أدري ما أصنع ، وأستحي أن آمرهم بالخروج ، فشكا ذلك إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله ، فقال :


          ألا يا قيل ويحك قم فهينم لعل الله يمنحنا غماما     فتسقى أرض عاد إن عادا
          قد أمسوا لا يبينون الكلاما     من العطش الشديد فليس نرجو
          به الشيخ الكبير ولا الغلاما     وقد كانت نساؤهم بخير
          وقد أمست نساؤهم عيامى [ ص: 71 ]     وإن الوحش تأتيهم نهارا
          ولا تخشى لعادي سهاما     وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم
          نهاركم وليلكم التماما     فقبح وفدكم من وفد قوم
          ولا لقوا التحية والسلاما

          فلما سمعوا هذا قالوا : ويحكم ادخلوا الحرم فاستسقوا لقومكم ، فقال مرثد : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم سقيتم ، فقال جلهمة : احبسوا عنا هذا ولا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، ثم خرجوا يستسقون ، فنشأت ثلاث سحائب : بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم نودي منها : يا قيل اختر ، فقال : أختار السوداء لأنها أكثر ماء ، وقيل للوفد : اختاروا فقال مرثد : يا رب أعطني صدقا وبرا ، فأعطي ، وقال لقمان بن عاد : أعطني عمرا ، فاختار عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من البيضة ويأخذ الذكر لقوته ، حتى إذا مات أخذ غيره إلى أن ماتت السبعة ، فمات .

          وأما السحابة فساقها الله تعالى إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له : مغيث ، فلما رأوها استبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا . فكان أول من رأى ما فيها امرأة منها فصاحت وصعقت ، فقيل لها : ما رأيت ؟ فقالت : ريحا فيها كشهب النار ، أمامها رجال يقودونها .

          فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما أي متتابعة ابتدأت غدوة الأربعاء آخر أربعاء في الشهر وسكنت في اليوم الثامن .

          واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم منها إلا ما يلين الجلود وتلتذ عليه النفوس .

          فكانت الريح تقلع الشجر وتهدم البيوت وترفع الرجال والنساء بين السماء والأرض فتدق رقابهم فيبين الرأس عن الجسد ، فذلك معنى قوله : كأنهم أعجاز نخل خاوية ثم تدمغهم بالحجارة ، قال عمر بن ميمون : كانت الريح تحمل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة .

          أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، أنبأنا عاصم بن الحسن ، أنبأنا علي بن محمد بن بشران ، حدثنا الحسن بن صفوان ، حدثنا أبو بكر القرشي ، حدثنا ابن عبد الوهاب ، حدثنا محمد بن يزيد ، عن جويبر ، حدثني أبو داود ، أنه سمع ابن عباس يقول : أول ما عرفوا أنه عذاب : رأوا ما كان خارجا من رجالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش ، [ ص: 72 ] فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم وهالت عليهم بالرمل ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم قبضت أرواحهم وطرحتهم الريح وألقوا في البحر ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم .

          وقال مقاتل : بعث الله طيرا أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر .

          فانظروا رحمكم الله كيف أهلك الخلق العظيم بالريح التي هي ألطف الأشياء ، ليبين أثر القدرة ، جل جلاله ، وكذلك يميت الخلق عند نفخة ويحييهم عند نفخة ، فسبحان من بانت سطوته للمعاندين فقهرت ، وظهرت آثار قدرته للمتقين فبهرت ، كم عذب مريض بريح في حشاه يختلف إلى أن تلف .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية