الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          إني جزيتهم اليوم بما صبروا


          كان كفار قريش كأبي جهل وعتبة والوليد قد اتخذوا فقراء الصحابة كعمار وبلال وخباب وصهيب سخريا يستهزئون بهم ويضحكون منهم ، فإذا كان يوم القيامة قيل لهم إني جزيتهم اليوم بما صبروا على أذاكم واستهزائكم .

          لما علم الصالحون أن الدنيا دار حلة دافعوا زمان البلاء وأدلجوا في ليل الصبر علما منهم بقرب فجر الأجر ، فما كانت إلا رقدة حتى صبحوا منزل السلامة نفذت أبصار بصائرهم بنور الغيب إلى مشاهدة موصوف الوعد ، فتعلقت يد الآمال بما عاينت بواطن القلوب ، وأخمصوا عن الحرام البطون وغضوا عن الآثام الجفون ، وسكبوا في ظلام الليل الدموع ، وتململوا تململ الملسوع ، استقاد قلوبهم زمان التطلف ثم جثها سائق التعسف ، فكلما ألاح لهم الرجاء نور الوصال طبق ظلام الخوف سماء الأعمال ، فهم في بيداء التحير يسرحون ، ومن باب التضرع لا يبرحون ، وحزنهم أولى مما يفرحون ، فإذا عمهم الغم فبالذكر يتروحون ، رفضوا الدنيا فسلموا وطلبوا الأخرى فما ندموا يا بشراهم إذا قدموا وغنموا .

          [ ص: 168 ] أخبرنا أبو بكر الصوفي ، أنبأنا أبو سعد الحيري ، أنبأنا أبو عبد الله الشيرازي حدثنا أبو زرعة الطبري ، حدثني يحيى بن عبد الله بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد ، حدثنا سعيد بن نصر ، حدثني محمد بن يحيى بن عبد الكريم ، عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، قال حدثني حكيم من الحكماء قال مررت بعريش مصر وأنا أريد الرباط ، فإذا أنا برجل في مظلة قد ذهبت عيناه ويداه ورجلاه وبه أنواع البلاء وهو يقول : الحمد لله حمدا يوافي شكرك بما أنعمت علي وفضلتني على كثير من خلقك تفضيلا ، فقلت : لأنظرن أشيء علمه أو ألهمه إلهاما ، فقلت : على أي نعمة تحمده ، فوالله ما أرى شيئا من البلاء إلا وهو بك ! فقال : ألا ترى ما قد صنع بي ؟ فوالله لو أرسل السماء علي نارا فأحرقتني وأمر الجبال فدكتني وأمر البحار فغرقتني ما ازددت له إلا حمدا وشكرا ، ولكن لي إليك حاجة ، بنية لي كانت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري فانظر هل تحس بها ؟ فقلت : والله إني لأرجو أن يكون لي في قضاء حاجة هذا العبد الصالح قربة إلى الله عز وجل ، فخرجت أطلبها بين تلك الرمال فإذا السبع قد أكلها فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ! من أين آتي هذا العبد الصالح فأخبره بموت ابنته ، فأتيته فقلت : أنت أعظم عند الله منزلة أم أيوب ؟ ابتلاه الله تعالى في ماله وأهله وولده وبدنه حتى صار غرضا للناس ؟ فقال : لا بل أيوب ، فقلت : إن ابنتك التي أمرتني أن أطلبها أصبتها فإذا السبع قد أكلها ، فقال : الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا وفي قلبي شيء ، ثم شهق شهقة فمات ، فصليت عليه أنا وجماعة معي ثم دفنته ، ثم بت ليلتي حتى إذا مضى من الليل قدر ثلثه وإذا به في روضة خضراء وإذا عليه حلتان خضراوان وهو قائم يتلو القرآن ، فقلت : ألست صاحبي بالأمس ؟ فقال : بلى .

          فقلت : ما صيرك إلى ما أرى ؟ فلقد زدت على العابدين درجة لم ينالوها : قال : بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء .

          أخبرنا محمد بن أبي منصور ، أنبأنا أبو طالب اليوسفي ، أنبأنا يوسف بن محمد المهراني ، أنبأنا أحمد بن محمد بن حسنون ، حدثنا جعفر الخواص ، حدثنا ابن مسروق ، حدثنا محمد بن الحسين ، حدثني يحيى بن بسطام الأصغر ، حدثني حريث بن طرفة قال كان حسان بن أبي سنان يصوم الدهر ويفطر على قرص ويتسحر بآخر ، فنحل وسقم جسمه حتى صار كهيئة الخيال ، فلما مات وأدخل مغتسله ليغسل كشف الثوب عنه فإذا هو كالخيط الأسود قال : وأصحابه يبكون حوله ، قال حريث : فحدثني يحيى البكاء وإبراهيم ابن محمد العرني قالا : لما نظرنا إلى حسان على مغتسله وما قد أبلاه الدؤوب استدمع أهل البيت وعلت أصواتهم ، فسمعنا قائلا يقول من ناحية البيت :

          [ ص: 169 ]

          تجوع للإله لكي يراه نحيل الجسم من طول الصيام

          فوالله ما رأينا في البيت إلا باكيا ونظرنا فلم نر أحدا ، قال حريث : فكانوا يرون أن بعض الجن قد بكاه .

          قال بعض أصحاب بشر بن الحارث : جئت إلى بابه فإذا هو في الدهليز وبين يديه بطيخة وهو يقول لنفسه : أكلتيها فكان ماذا ؟ فطرقت عليه الباب ودخلت وقلت أي شيء هذه تعاتب نفسك فيها ، فقال :


          صبرت على الأيام حتى تولت     وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
          وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى     فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت

          ثم رمى بالبطيخة إلي وأنشأ يقول :


          وإن كدي لشبع بطني     يبيع ديني بلا محال
          من نال دنيا بغير دين     نال وبالا على وبال

          أخبرنا يحيى بن علي ، أنبأنا أبو بكر الخياط ، أنبأنا الحسن بن الحسين بن حمكان حدثنا أبو بكر النقاش ، عن محمد بن إسحاق السراج ، قال سمعت أحمد بن الفتح يقول : رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان وبين يديه مائدة وهو يأكل منها فقلت له : يا أبا نصر ما فعل الله بك ؟ قال رحمني وغفر لي وأباحني الجنة بأسرها وقال لي : كل من جميع ثمارها واشرب من أنهارها وتمتع بجميع ما فيها ، كما كنت تحرم على نفسك الشهوات في دار الدنيا .

          أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، أنبأنا أبو الحسين بن عبد الجبار أنبأنا الحسين بن علي الطناجيري أنبأنا عبيد الله بن عثمان ، أخبرنا علي بن محمد العنبري ، أخبرنا عبد الرحمن ابن معاوية القرشي ، حدثنا محمد بن الفرج الصدفي ، حدثنا جعفر بن هرون ، عن مسلمة ابن جعفر ، عن الحسن قال : إن لله تعالى عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار معذبين ، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأنفسهم عفيفة ، وحوائجهم خفيفة ، صبروا أياما قصارا تعقب راحة طويلة ، أما الليل فصافة أقدامهم تسيل دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى ربهم عز وجل ربنا ربنا ، وأما النهار فعلماء حلماء بررة أتقياء ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى أو قد خولطوا ، وما بهم مرض ولكن خالط القوم أمر عظيم .

          أخبرنا أبو بكر الصوفي ، أنبأنا أبو سعد الحيري ، حدثنا أبو عبد الله الشيرازي حدثنا محمد بن الحسين الزنجاني ، حدثنا عيسى بن هرون ، حدثنا إبراهيم بن الجنيد ، حدثني [ ص: 170 ] محمد بن صالح بن يحيى ، عن شعيب بن حرب ، قال : كان قوم من الحواريين على شاطئ البحر يتحدثون في ملكوت السماء وفي خدعة الدنيا لمن فيها ، فسمعوا هاتفا من البحر يقول : إن لله عبادا أخلصتهم الخشية وأذابهم الحزن ، فلم تجف دمعتهم ولم يشغلهم عن ربهم شاغل ، تفرغوا ونصبوه بين أعينهم ، أولئك على كراسي من نور عند قائمة العرش يضحك الله إليهم ويضحكون إليه فصعقوا وسقط بعضهم في البحر ومات باقيهم .

          أخبرنا ابن ناصر ، أنبأنا محمد بن علي القرشي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحسيني ، حدثنا أبو حازم محمد بن علي الوشاء ، حدثنا زيد بن محمد بن جعفر ، حدثنا داود بن يحيى الدهقان ، حدثنا محمد بن حماد بن عمرو حدثنا حسين بن حسين بن محمد ابن بكر ، عن أبي الجارود ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليبلغ من كرامة العبد على الله عز وجل يوم القيامة أنه ليكون له في الجنة ألف باب ، ما منها باب إلا عليه خدم من خدمه ، فتقبل الملائكة حتى ينتهوا إلى تلك الأبواب فيقولون هل على سيدكم من إذن ؟ فيقولون : ما ندري ؟ فيأتونه فيقولون : إن ملائكة من ملائكة الله على الأبواب يقولون : هل على سيدكم من إذن ؟ فيقولون : نعم ، فيدخلون عليه بالتحية .

          يا قليل الصبر إنما هي مراحل ، فصابر لجة البلاء فالموت ساحل ، تأمل تحت سجف ليل الصبر صبح الأجر ، واحبس لسانك عن الشكوى في سجن الصبر ، واقطع نهار اللأواء بحديث الفكر ، وأوقد في دياجي الآلام مصباح الشكر ، وقلب قلبك بين ذكر الثواب وتمحيص الوزر ، وتعلم أن البلاء يمزق ركام الذنوب تمزيق الشباك ويرفع درجات الفضائل إلى كاهل السماك ومن تفكر في سر إن الله مع الصابرين أنس بجليسه ، ومن تذكر إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فرح بامتلاء كيسه .


          إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى     ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
          ندمت على أن لا تكون كمثله     وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

          التالي السابق


          الخدمات العلمية