الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة


          المراد بالماء ههنا المطر . وقد جعل الله عز وجل الريح سببا لإثارته ، فقال عز وجل : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزعج إذا رأى الريح أو الغيم .

          أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده ، عن أبي النضر ، عن سليمان بن يسار ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، فقلت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية . فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ؟ قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب ، فقالوا : هذا عارض ممطرنا .

          أخرجاه في الصحيحين .

          [ ص: 581 ] وقال ابن عباس : الرياح ثمان : أربع رحمة ، وأربع عذاب . الرحمة : المبشرات ، والمنشرات ، والمرسلات ، والرخاء . والعذاب : العاصف ، والقاصف وهما في البحر ، والعقيم والصرصر ، وهما في البر .

          وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : اللهم إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما أرسلت به .

          وروى ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .

          قال ابن عباس : الرعد صوت ملك يزجر السحاب كما ينعق الراعي بالغنم . وكان ابن الزبير إذا سمع صوت الرعد يقول : إن هذا وعيد شديد لأهل الأرض ، وقال شهر بن حوشب : الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل يسبح كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه .

          وسمع سليمان بن عبد الملك صوت الرعد فانزعج ، فقال عمر بن عبد العزيز : هذا صوت رحمة فكيف لو جاء بسخط ؟ !

          وقال علي كرم الله وجهه : البرق مخاريق بأيدي الملائكة يسوقون بها السحاب ، وقال أبو الجلد : البرق هو تلألؤ الماء ، والصواعق مخاريق يزجر بها السحاب .

          قال عطاء : الصاعقة لا تصيب ذاكر الله تعالى .

          وقال ابن عباس : ما من عام أكثر مطرا من عام ، ولكن الله تعالى يصرفه في الأرضين .

          قال عطاء بن أبي رباح : قال موسى عليه السلام : يا رب هذا الغيث لا ينزل ، وينزل فلا ينفع ؟ قال : لكثرة الزنا وظهور الربا .

          وقال عمر رضي الله عنه : إن الرجف من كثرة الزنا ، وإن قحوط المطر من قضاة السوء ، وأئمة الجور .

          أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك بسنده ، عن محمد بن واسع ، عن سمير بن نهار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال ربكم عز وجل : لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد " .

          [ ص: 582 ] قال هارون : وحدثنا عفان بن مبارك ، عن فضالة ، قال : سمعت الحسن ، يقول : كانوا يقولون - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الحمد لله الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله عز وجل : لو كان لهذا الخلق رب لحادثه ، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات ، إنه قد جاء بضوء طبق ما بين الخافقين ، وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق ، وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيها سكنا ونجوما وقمرا منيرا ، وإذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر والرعد والبرق والصواعق ، وإذا شاء صرف ذلك ، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس ، وإذا شاء جاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ؛ ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما يرون من الآيات كلها ، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة .

          وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استسقى يقول : " اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، اللهم اسقنا غيثا هنيئا مريعا غدقا طبقا عاجلا غير رائث ، نافعا غير ضار ، اللهم اسقنا سقيا وادعة نافعة " .

          قال أنس : " أصابنا مطر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه المطر ، وقال : إنه حديث عهد بربه " .

          وفي لفظ : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي ثيابه أول مطرة تمطر " .

          وقال عكرمة : كان ابن عباس إذا مطر يقول : يا عكرمة أخرج الرياح أخرج كذا حتى يصيبه المطر .

          وقال عبيد بن عمير : يبعث الله ريحا فتقيم الأرض ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة فتؤلفه ، ثم يبعث اللواقح فتلقح الشجر .

          وقال عكرمة : ينزل الله عز وجل الماء من السماء السابعة فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير . قال كعب : والسحاب غربال المطر ولولا السحاب لأفسد ما يقع عليه .

          وقال ابن عباس : المطر مزاجه من الجنة ، فإذا كثر المزاج كثرت البركة ، وإذا جاء القطر من السماء فتحت له الأصداف فكان لؤلؤا .

          [ ص: 583 ] وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عند نزول الغيث تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء " .

          قال المفسرون : إذا نزل القطر على الأرض اهتزت أي تحركت للنبات ، فإذا أراد الخروج ارتفعت عنه ، فهو معنى قوله عز وجل وربت وأنبتت من كل زوج أي من كل جنس بهيج أي أنه يبهج ويسر .

          يا من قد أجدبت أرض قلبه ، متى تهب ريح المواعظ فتثير سحابا ، فيه رعود تخويف ، وبروق خشية ، فتقع قطرة على صخر القلب فيتروى وينبت ؟ !

          يا من أجدبت أرض قلبه ، واشتغل عنها ولها ، اخرج إلى صحراء التيقظ واستسق لها ، هيهات أن تخضر أرض القلب حتى يتروى الخد من عين العين . لا تيأس من جدب الجدب ، فليس بمستحيل أن يستحيل .

          سجع :

          سبحان المتفرد بالقدرة ، فلا تقدر الخلائق قدره ، أنعم فمن يطيق شكره ، كلا إن الغافل في سكرة أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة .

          جل صفة وعز اسما ، وبسط أرضا ورفع سما ، وأنزل من السماء ماء ، فحمى النبات فسموه جمرة فتصبح الأرض مخضرة .

          تعرفه القلوب والألباب ، ويسبحه الصحو والضباب ، انبعث الغيم فما توقف السحاب ، أقبل الرعد في صرة فتصبح الأرض مخضرة .

          تأخر الغيث فتمكن الضر ، ثم جاء فالمؤمن بذلك سر ، فاستغاث النبات مما عر ، فجاء بعد أن كان قد مر ، كم كر كرة بعد كرة فتصبح الأرض مخضرة .

          أصبح الثرى عطشان ينادي واليبس عليه ظاهر بادي ، فصاح الرعد بالسحاب صياح الحادي ، فتروى الوادي وسالت الجرة فتصبح الأرض مخضرة .

          انبعث السحاب فطبق الأرجا ، وصاح البدوي في البدو : النجا ، والجرون متلفعة بالغثا ، دب ثم نعش ثم قطقط ثم أفرط ثم جاء بكرة فتصبح الأرض مخضرة .

          انكشفت سماء الأرض عن بدورها ، وأذنت الغائبات النبات في حضورها ، ولم تخن الأرض من بذر نباتها ذرة فتصبح الأرض مخضرة .

          [ ص: 584 ] أحضرت أمهات الزرع عن بناتها ، واجتمعت الأغصان بالقطر بعد شتاتها ، وتزينت للناظرين بأنواع نباتها ، ولقد كانت عرة فتصبح الأرض مخضرة .

          فشت الزينة في الصحاري والبرى ، وأظهرت عجائب القدرة فيما برى ، وأشاع الثرى كما ترى من المكتوم سره فتصبح الأرض مخضرة .

          ماتت تحت الأرض كل البذور ، فإذا الرعد ينفخ في الصور ، فضحك النور بالنور لما سره فتصبح الأرض مخضرة .

          قام ميت البذر من حفرته ، وقدم بعد طول سفرته ، ومنح النبات لكثرته ، قانعة ومعترة فتصبح الأرض مخضرة .

          تكلمت الأطيار والمعنى مفهوم ، وارتاحت بنطقها حتى البوم ، وتبدلت الأرض الفرح من الهموم ، فانقلبت تلك الغموم كلها مسرة فتصبح الأرض مخضرة .

          جيدت الأرض فروت التراب ، وأجيدت المواعظ فهل أحضرت الألباب ؟ ! ، وما يؤثر اللوم والعتاب ، إلا عند نفس حرة فتصبح الأرض مخضرة .

          والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

          [ ص: 585 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية