الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 151 ] المجلس الثاني عشر

          في قصة يوسف عليه السلام

          الحمد لله أحسن الخالقين وأكرم الرازقين ، مكرم الموفقين ومعظم الصادقين ومجل المتقين ، ومذل المنافقين ، حفظ يوسف لعلمه بعلم اليقين ، فألبسه عند الهم دروعا يقين ، وملكه إذا ملك عنان الهوى ميدان السابقين ، فذل له إخوته يوم : وما كنا سارقين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين .

          أحمده حمد الشاكرين وأصلي على رسوله محمد أشرف الذاكرين ، وعلى أبي بكر سابق المبكرين ، وعلى عمر سيد الآمرين بالمعروف والمنكرين ، وعلى عثمان الشهيد بأيدي الماكرين ، وعلى علي إمام العباد المتفكرين ، وعلى عمه العباس أبي الخلفاء الراشدين .

          قال الله عز وجل : تالله لقد آثرك الله علينا .

          كان يعقوب قد ولد في زمن إبراهيم ونبئ في زمانه أيضا ، وكان هو والعيص توأمين فاختصما فخرج هاربا إلى خاله لابان فزوجه ابنته ليا ، فولدت له روبيل ثم شمعون ولاوي ويشجب ويهوذا وزبالون ، ثم توفيت فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، ومعناه ابن الوجع لأنها ماتت في نفاسه ، وولد له من غيرها أربعة ، فكان أولاده اثني عشر ، وهم الأسباط .

          وكان أحب الخلق إليه يوسف ، فحسده إخوته فاحتالوا عليه ، فقالوا يا يوسف أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد ؟ فقال : بلى ، قالوا : فسل أباك أن يرسلك معنا ، فاستأذنه فأذن له ، فلما أصحروا أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة ، فجعل كلما التجأ إلى شخص منهم آذاه وضربه ، فلما فطن لما عزموا عليه قال : يا أبتاه يا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك ، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك ، فأخذه روبيل فضرب به الأرض وجثم على صدره ليقتله وقال : يا بن راحيل قل لرؤياك تخلصك ، وكان قد رأى وهو ابن سبع سنين الشمس والقمر والنجوم ساجدين له ، فصاح : يا يهوذا حل بيني وبين من يريد قتلي ، فقال يهوذا : ألقوه في غيابة [ ص: 152 ] الجب ، فنزعوا قميصه لإلقائه ، فقال : ردوه علي أستر به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي .

          فلما ألقوه أخرج الله له حجرا مرتفعا من الماء فاستقرت عليه قدماه ، وكان يعقوب ، عليه السلام ، قد أدرج قميص إبراهيم عليه السلام الذي كسيه يوم ألقي في النار في قصبة وجعلها في عنق يوسف ، فبعث الله عز وجل ملكا فاستخرج القميص فألبسه إياه وأضاء له الجب وعذب ماؤه ، وجاءه جبريل يؤنسه ، فلما أمسى نهض جبريل ليذهب ، فقال له يوسف : إنك إذا خرجت عني استوحشت فقال : إذا رهبت شيئا فقل : يا صريخ المستصرخين ويا غياث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين ، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري ، فلما قالها حفت به الملائكة فاستأنس بهم .

          وذبح إخوته جديا فلطخوا به القميص ، وقالوا أكله الذئب ، ومكث في الجب ثلاثة أيام وإخوته يرعون حوله ، ويهوذا يأتيه بالقوت .

          فلما جاءت السيارة تسقي من الجب تعلق بالحبل فأخرجوه ، فجاء إخوة يوسف فقالوا : هذا عبد أبق منا ، فباعوه منهم بعشرين درهما وحلة ونعلين .

          فحملوه إلى مصر فوقفوه للبيع ، فتزايد الناس في ثمنه ، حتى بلغ وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا ، واشتراه بذلك قطفير ، وكان أمين ملكهم وخازنه ، وقال لامرأته زليخا : أكرمي مثواه ، فراودته فعصم منها ، فسجنته إذ لم يوافقها ، فبقي مسجونا إلى حين منام الملك ، فلما أخرجه من السجن فوض إليه أمر مصر ، فجمع الأقوات في زمن الرخاء وباع في زمن القحط ، فروي أنه باع مكوك بر بمكوك در ، وباع أهل مصر بأموالهم وحليهم ومواشيهم وعقارهم وعبيدهم ، ثم بأولادهم ثم برقابهم ، ثم قال : إني قد أعتقتهم ورددت عليهم أموالهم ، وكان يوسف عليه السلام لا يشبع في تلك الأيام ويقول : أخاف أن أنسى الجائع ، وبلغ القحط إلى كنعان فأرسل يعقوب ولده للميرة ، وقال : يا بني قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا فانطلقوا إليه فأقرئوه مني السلام ، فمضوا فدخلوا عليه فعرفهم وأنكروه ، فقال : من أين أتيتم ؟ فقالوا : من أرض كنعان ، ولنا شيخ يقال له يعقوب ، وهو يقرؤك السلام ، فبكى وعصر عينيه وقال : لعلكم جواسيس ، فقالوا : لا والله ، قال : فكم أنتم ؟ قالوا : أحد عشر ، وكنا اثني عشر ، فأكل أحدنا الذئب ، فقال ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم ، ثم درج بضاعتهم في رحالهم ، فعادوا إلى أبيهم ، فقالوا : إنا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل ، فقال يعقوب : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ؟ ! ثم حمله احتياجه إلى الطعام إلى أن أرسله معهم .

          [ ص: 153 ] فلما دخلوا على يوسف أجلس كل اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحيدا يبكي ، وقال : لو كان أخي حيا لأجلسني معه ! فضمه يوسف إليه وقال : أتحب أن أكون أخاك ؟ فقال : أيها الملك ومن يجد أخا مثلك ، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه فاعتنقه وقال أنا أخوك ، ثم احتال عليه فوضع الصاع في رحله ، فلما لم يقدروا على خلاصه أقاميهوذا ورجعوا إلى يعقوب يقولون : إن ابنك سرق ، فتلقاهم بصبر جميل وانفرد بحزنه .

          قال الحسن : ما فارقه الحزن ثمانين سنة ، وما جفت عيناه ، وما أحد أكرم على الله منه .

          ثم إن ملك الموت لقي يعقوب فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا ، فأصبح يقول لبنيه : اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه فلما عادوا إليه ببضاعة مزجاة وهي القليلة ، وقفوا موقف الذل ، وقالوا : تصدق علينا ، فقال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وكشف الحجاب عن نفسه ، فعرفوه فقالوا : أإنك لأنت يوسف فحينئذ قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا قال الزجاج : تالله بمعنى : والله ، إلا أن التاء لا يقسم بها إلا في الله عز وجل ، ولا يجوز : تالرحمن ولا تربي ، والتاء تبدل من الواو كما قالوا في وراث : تراث . وقالوا : يتزن . وأصله يوتزن ، من الوزن .

          ومعنى آثرك الله اختارك وفضلك ، وكان فضل عليهم بالحسن والعقل الحلم والصبر وغير ذلك وإن كنا لخاطئين أي لمذنبين آثمين في أمرك .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية