الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم


          اعلموا أن إطلاق البصر سبب لأعظم الفتن ، وهذا القرآن يأمرك باستعمال الحمية عن ما هو سبب الضرر ، فإذا تعرضت بالتخليط فوقعت إذا في أذى ، فلم تضج من أليم الألم .

          أخبرنا إسماعيل بن أحمد المقري ، وعبيد الله بن محمد القاضي ، ويحيى بن علي المدبر قالوا : أنبأنا أبو الحسين بن النقور ، أنبأنا ابن حبابة ، حدثنا البغوي ، حدثنا هدبة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن سلمة ابن أبي الطفيل ، عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا علي إن لك في الجنة كنزا وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة .

          في هذا الحديث إشكال من أربعة وجوه :

          أحدها : من حيث إسناده ، فربما خيل إلى السامع أنه قد سقط منه رجل ، لأنه إذا سمع سلمة بن أبي الطفيل عن علي ، وقد عرف أن أبا الطفيل يروي عن علي يظن ذلك بل هو صحيح ، وسلمة يروي عن علي أيضا .

          [ ص: 133 ] والثاني : الكناية في قوله : " وإنك ذو قرنيها " وفيه وجهان :

          أحدهما : أنها كناية عن هذه الأمة ، كنى عنها من غير ذكر تقدم لها كما قال الله عز وجل : حتى توارت بالحجاب يعني الشمس ، ولم يتقدم لها ذكر .

          والثاني : عن الجنة .

          والثالث : يعني تسميته بذي القرنين وفيه وجهان :

          أحدهما : إن قلنا إن الكناية عن الأمة فإن عليا رضي الله عنه ضرب على رأسه في الله عز وجل ضربتين : الأولى ضربة عمرو بن ود ، والثانية ابن ملجم ، كما ضرب ذو القرنين على رأسه ضربة بعد ضربة ، وإن قلنا : الكناية عن الجنة فقرناها : جانباها ، ذكره ابن الأنباري .

          والرابع : قوله : " فلا تتبع النظرة النظرة " ربما تخايل أحد جواز القصد للأولى وليس كذلك ، وإنما الأولى التي لم تقصد .

          وفي أفراد مسلم من حديث جرير بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال : " اصرف بصرك " .

          وهذا لأن النظرة الأولى لم يحضرها القلب فلا يتأمل بها المحاسن ولا يقع الالتذاذ ، فمتى استدامها بمقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم .

          وفي حديث النعمان بن سعد ، عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي اتق النظرة بعد النظرة ، فإنها سهم مسموم تورث شهوة في القلب .

          وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس ، من تركه ابتغاء وجه الله أعطاه الله عز وجل عبادة يجد طعم لذتها .

          وكان عيسى عليه السلام يقول : النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة .

          وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان من نظرة فإن للشيطان فيها مطمعا ، والإثم خراز القلوب ، وقال : من أطلق طرفه كان كثيرا أسفه .

          وقد كان السلف رضي الله عنهم يبالغون في الاحتراز من النظر ، وكان في دار مجاهد علية قد بنيت فبقي ثلاثين سنة ولم يشعر بها .

          [ ص: 134 ] وخرج حسان بن أبي سنان يوم عيد ، فلما عاد قالت له امرأته : كم من امرأة حسناء قد رأيت ؟ فقال : والله ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك إلى أن رجعت إليك .

          وإنما بالغ السلف في الغض حذرا من فتنة النظر وخوفا من عقوبته .

          فأما فتنته فكم من عابد خرج عن صومعته بسبب نظرة ، وكم استغاث من وقع في تلك الفتنة .

          قال إبراهيم بن صول :


          من كان يؤتى من عدو وحاسد فإني من عيني أتيت ومن قلبي     هما اعنوراني نظرة بعد نظرة
          فما أبقيا لي من رقاد ولا لب

          وقال آخر :


          وأنا الذي اجتلب المنية طرفه     فمن المطالب والقتيل القاتل

          وقال آخر :


          عاتبت قلبي لما     رأيت جسمي نحيلا
          أجاب قلبي طرفي     وقال كنت الرسولا
          فألزم القلب طرفي     بل كنت أنت الدليلا
          فقلت كفا جميعا     تركتماني قتيلا

          وقال آخر :


          يا من يرى سقمي يزيـــــ     ــد وعلتي تعيي طبيبي
          لا تعجبن فهكذا     تجني العيون على القلوب

          وقال آخر :


          لواحظنا تجني ولا علم عندها     وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
          ولم أر أغبى من نفوس عفائف     تصدق أخبار العيون الفواجر
          ومن كانت الأجفان حجاب قلبه     أذن على أحشائه بالفواقر

          وقال آخر :


          إذا أنت لم ترع البروق اللوامحا     ونمت جرى من تحتك الماء سائحا
          غرست الهوى باللحظ حتى احتقرته     فأمهلته مستأنسا متسامحا
          ولم تدر حتى أينعت شجراته     وهبت رياح الهجر فيه لواقحا
          وأمسيت تستدعي من الصبر عازبا     عليك وتستدني من النوم نازحا

          [ ص: 135 ] وقال آخر :


          والمرء ما دام ذا عين يقلبها     في أعين العين موقوف على الخطر
          يسر مقلته ما ضر مهجته     لا مرحبا بسرور جاء بالضرر

          وقال آخر :


          لأعذبن العين غير مفكر     فيها جرت بالدمع أو فاضت دما
          ولأهجرن من الرقاد لذيذه     حتى يصير على الجفون محرما
          سفكت دمي فلأسفكن دموعها     وهي التي بدأت فكانت أظلما
          هي أوقعتني في حبائل فتنة     لو لم تكن نظرت لكنت مسلما

          وقال آخر :


          وسهام اللحظ يستحليـــــ     ـن في وقت الوقوع
          ثم يصرفن فلا يقلــــــــ     ـــعن إلا عن صريع

          وقال آخر :


          إن كان طرفي أصل سقمي في الهوى     لا أذاق الله عيني الوسنا
          لو تحرى في مرامي لحظه     يوم سلع ما عناني ما عنا

          غيره :


          يا عين أنت قتلتني     وجعلت ذنبك من ذنوبي
          وأراك تهوين الدمو     ع كأنها ريق الحبيب
          تالله أحلف صادقا     والصدق من شيم الأريب
          لو ميزت ثوب الزما     ن من البعيد إلى القريب
          ما كن إلا دون ما     جنت العيون على القلوب

          التالي السابق


          الخدمات العلمية