الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          ثم إنكم بعد ذلك لميتون


          يا من هو على محبة الدنيا متهالك ، أما علمت أنك عن قليل هالك ، أما تيقنت أن الدنيا محبوب تارك ، ثم لست لها بعد العلم بها بتارك ، قدر أنك ملكت الممالك ، أما الأخير سلبك من أهلك ومالك ، هذا حسام الموت مسلول ، ليس بكال ولا مفلول ، وكل [ ص: 536 ] دم أراقه مطلول ، أذل والله أصعب الحمس وفتك قبرا بالأسود الشمس ، وفل السيف ولم يفل بالترس ، وساوى في القبر بين الزنج والفرس ، وأعاد الفصحاء تحت البلاء كالخرس ، ومحا بالترح أثر الفرح بالعرس :


          يغدو ابن آدم للمعاش فيلـ ـقاه الحمام بأضيق الطرق     لا يبهجن بملكه ملك
          فالبدر غايته إلى المحق

          أين الوالدون وما ولدوا ، أين الجبارون وأين ما قصدوا ، أين أرباب المعاصي على ماذا وردوا ، أما جنوا ثمرات ما جنوا وحصدوا ، أما قدموا على أعمالهم في مآلهم ووفدوا ، أما خلوا في ظلمات القبور ؟ بكوا والله وانفردوا ، أما ذلوا وقلوا بعد أن عتوا ومردوا ، أما طلبوا زادا يكفي في طريقهم ففقدوا ، أما حل الموت فحل عقد ما عقدوا ، عاينوا والله كل ما قدموا ووجدوا ، فمنهم أقوام شقوا وأقوام سعدوا :


          لا والد خالد ولا ولد     كل جليد يخونه الجلد
          كأن أهل القبور لم يسكنوا الد     ور ولم يحي منهم أحد
          ولم يكونوا إلا كهيئتهم     لم يولدوا قبلها ولم يلدوا
          يا من نعى من مضى كذاك غدا     تنعى ، فبادر فقد أتاك غد
          يا ناسي الموت وهو يذكره     ما لك بالموت إذ أتاك يد
          دارك دار يموت ساكنها     دارك يبلي جديدها الأبد
          تبكي على من مضى وأنت غدا     يوردك الموت في الذي وردوا
          لو كنت تدري ماذا يريد بك الـ     ـموت لأبكى جفونك السهد

          أين الذي ملكوا ونالوا ؟ زالوا ، وستؤول إلى ما إليه آلوا ، هذا مصيرنا يا معاشر الغافلين ، واللحود بيوتنا بعد الترف واللين ، والقيامة تجمعنا وتنصب الموازين ، والأهوال عظيمة فأين المتفكر الحزين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين .

          يا رهين الآفات والمصائب يا أسير الطارقات النوائب ، إياك وإيا الآمال الكواذب ، فالدنيا دار ولكن ليست بصاحب ، أما أرتك في فعلها العجائب فيمن مشى في المشارق والمغارب ، ثم أرتك فيك شيب الذوائب ، إن سهام الموت لصوائب ، لا يردها محارب ولا يفوتها هارب ، تدب إلينا دبيب العقارب ، بينا نسمع صوت مزهر صار صوت نادب ، يا أسير حب الدنيا إن قتلتك من تطالب ، كأنك بك قد بت فرحا مسرورا فأصبحت ترحا مثبورا ، وترك مالك لغيرك موفورا ، وخرج من يدك فصار للكل شورى ، وعاينت ما فعلت [ ص: 537 ] في الكتاب مسطورا ، وعلمت أنك كنت في الهوى مغرورا ، واستحالت صبا الصبا فعادت دبورا ، وأسكنت لحدا تصير فيه مأسورا ، ونزلت جدثا خربا إذ تركت قصرا معمورا ، ودخلت في خبر كان وكان أمر الله قدرا مقدورا .


          وما هذه الدنيا بدار إقامة     فيحزن فيها القاطن المترحل
          هي الدار إلا أنها كمفازة     أناخ بها ركب وركب تحملوا
          وإنا لمن مر الجديدين في الوغى     إذا مر منها جحفل كر جحفل
          تجرد نصلا والخلائق مفصل     وتنبض سهما والبرية مقتل
          وما خلفنا منها مفر لهارب     فكيف لمن رام النجاة التخيل
          وكل وإن طال الثواء مصيره     إلى مورد ما عنه للخلق معدل

          الموت مسرع مجد غير رائث ، والأموال عن قليل تمضي للوارث ، وكأنك بوقوع الحادثات وحصاد الحارث ، يا طويل الأمل هل قلبك لابث ، لا تسمعن المحال فلست بماكث ، يا مطالبا بالجد وهو لاعب عابث ، يا معاهدا باللسان والعزم ناكث ، يا من أعماله إذا فتشت خبائث ، صرح الشيب وطال ما مجمج ووضح فجره وما كان قد تبلج ، أوضح طريق الحذر وبين المنهج ، أين الشباب ؟ رحل مسرعا وهملج ، إن نار الفراق في القلب تتأجج ، إن فؤاد المتفكر يكاد أن ينضج ، هذه خيول الرحيل قد أقيمت تسرج ، والشكوك قد أزيلت والحق أبلج ، هذا وأنت بالمعاصي مغرى وتلهج ، لك كأس من المنون صرف لا يمزج ، يا من هو في الكفن عن قليل مدرج ، يا لابسا حلة من البلاء لم تنسج ، يا من بضاعته إذا نقدت كلها بهرج ، يا سالكا طريق الهوى عوسج ، كيف الطمع في المرتجى والباب مرتج ، يا من ضيقت الذنوب خناقه أين المخرج ، يا عظيم فقرك في القبر من منعك أحوج ، ما هذا الغرور أي مطمئن لم يزعج :


          أخلق الدهر الشباب الحسنا     ما أظن الوقت إلا قد دنا
          قد قطعنا في التصابي برهة     وجررنا في الذنوب الرسنا
          وركبنا غينا جهلا به     فوجدناه علينا لا لنا
          وشرينا الدون بالدين فما     عذر من قد باع بيعا غبنا

          لقد بان السبيل ولاح المنهج ، فما للقلب عن الهدى قد عرج ، أما يزعجك الترهيب ؟ أما يشوقك الترغيب ؟ إلام تروغ عن النصح روغان الذيب ، وتلفت إلى أحاديث المنى [ ص: 538 ] الأكاذيب قف على باب وإن كنا لخاطئين لتسمع : لا تثريب ، من التوفيق رفض التواني ، ومن الخذلان مسامرة الأماني .

          إخواني : نذيركم قد صدق ، والمجتهد قد سبق ، وقد مضى نهار العمر وبقي الشفق ، وآخر جرعة اللذة شرق ، وصاحب الدنيا منها على فرق ، رب غصن ناضر كسر إذا سبق ، رب زرع قامت سوقه رماه الغرق ، أين الرقيق ساقه سواق ما رفق ، هذا وكلكم يدري أين انطلق ، أما رأيتم مضجعه في القبر بالحدق ، واعجبا لقلب المتفكر كيف ما احترق ، أما شاهدتموه وقد تقطعت منه العلق ، وتقمص بعد عريه جلباب الخوف والفرق ، وخرس لسانه وقد طال ما نطق :


          فما تزود مما كان يجمعه     إلا حنوطا غداة البين في خرق
          وغير نفخة أعواد يشب له     وقل ذلك من زاد لمنطلق

          أيها المتيقظون وهم نائمون ، أتبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون ، كونوا كيف شئتم فستنقلون ثم إنكم بعد ذلك لميتون : يا مقيمين سترحلون ، يا مستقرين ما تتركون ، يا غافلين عن الرحيل ستظعنون ، أراكم متوطنين تأمنون المنون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          طول نهاركم تلعبون وطول ليلكم ترقدون ، والفرائض ما تؤدون ، وقد رضيتم عن الغالي بالدون ، لا تفعلوا ما تفعلون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          أما الأموال فتجمعون والحق فيها ما تخرجون ، وأما الصلاة فتضيعون وإذا صليتم تنقرون ، أترى هذا إلى كم يكون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          أين العتاة المتجبرون ، أين الفراعنة المتسلطون ؟ أين أهل الخيلاء المتكبرون ؟ قدروا أنكم صرتم كهم أما تسمعون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          ما نفعتهم الحصون ولا رد المال المصون ، هبت زعزع الموت فكسرت الغصون ، قدروا أنكم تزيدون عليهم ولا تنقصون ثم إنكم بعد ذلك لميتون تقلبوا من اللذات في فنون ، وأخرجهم البطر إلى الجنون ، فأتاهم ما هم عنه غافلون كم تركوا من جنات وعيون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          لو حصل لكم كل ما تحبون ونما جميع ما تؤتون ، ونلتم من الأماني ما تشتهون ، [ ص: 539 ] أينفعكم حين ترحلون ؟ ثم إنكم بعد ذلك لميتون إلى متى وحتى متى تنصحون وأنتم تكسبون الخطايا وتجترحون ، أأمنتم وأنتم تسرحون ذئب هلاك فلا تبرحون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          لا تفرحوا بما تفرحون فإنه لغيركم حين تطرحون ، وإياكم من يراكم من يراكم تمرحون ، قد خسرتم إلى الآن فما تربحون ثم إنكم بعد ذلك لميتون .

          ويحكم الدنيا دار ابتلاء وفتون ، وقد زجركم عنها المفتون ، وكم رأيتم من هالك بها مفتون وكأنكم بكم قد حملتم على المتون ، كم أدلكم على النظافة وتختارون الأتون .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية