الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام


          كتب : بمعنى فرض ، أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، أنبأنا أبو سعيد بن أبي صادق ، أخبرنا أبو عبد الله بن باكويه ، قال سمعت حسان بن أحمد الهاشمي يقول ، سأل المأمون علي بن موسى الرضا : أي شيء فائدة الصوم في الحكمة ؟ فقال : علم الله ما ينال الفقير من شدة الجوع فأدخل على الغني الصوم ليذوق طعن الجوع ضرورة حتى لا ينسى الفقير من شدة الجوع ، فقال المأمون : أقسم بالله لا كتبت هذا إلا بيدي ! .

          [ ص: 468 ] وللصوم آداب يجمعها : حفظ الجوارح الظاهرة وحراسة الخواطر الباطنة ، فينبغي أن يتلقى رمضان بتوبة صادقة وعزيمة موافقة ، وينبغي تقديم النية وهي لازمة في كل ليلة ، ولا بد من ملازمة الصمت عن الكلام الفاحش والغيبة فإنه ما صام من ظل يأكل لحوم الناس ، وكف البصر عن النظر إلى الحرام ، ويلزم الحذر من تكرار النظر إلى الحلال .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " .

          انفرد بإخراجه البخاري .

          وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " .

          وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : " إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا " .

          وفي حديث سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه له طهور " .

          وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا قرب إلى أحدكم طعامه وهو صائم فليقل : بسم الله والحمد لله اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وعليك توكلت ، سبحانك اللهم وبحمدك إنك أنت السميع العليم " .

          ويستحب السحور وتأخيره .

          وفي الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تسحروا فإن في السحور بركة " .

          [ ص: 469 ] وينبغي للصائم أن يتشاغل طول نهاره بالذكر والتلاوة وكان الشافعي رضي الله عنه يختم في رمضان ستين ختمة .

          أخبرنا الكروخي بسنده عن الزهري قال : تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحة في غيره .


          حق شهر الصيام شيئان إن كنـ ـت من الموجبين حق الصيام     تقطع الصوم في نهارك بالذكـ
          ـر وتفني ظلامه بالقيام

          أخبرنا أبو القاسم الجريري بسنده عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ذاكر الله عز وجل في رمضان مغفور له وسائل الله عز وجل فيه لا يخيب " .

          وعن قيس الجهني قال : إن كل يوم يصومه العبد من رمضان يجيء يوم القيامة في عمامة من نور في تلك العمامة قصر من در له سبعون ألف باب كل باب ياقوتة حمراء .

          ويستحب للصائم أن يفطر الصوام إذا أمكنه .

          أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فطر صائما كان له أو كتب له مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئا ، ومن جهز غازيا في سبيل الله كان له أو كتب له مثل أجر الغازي في سبيل الله غير أنه لا ينقص من أجر الغازي شيئا " .

          فبادروا إخواني شهركم بأفعال الخير ، وأفردوها عن الخطايا لتكون وحدها لا غير ، واعلموا أن شهركم هذا شهر إنعام ومير ، تعرف حرمته الملائكة والجن والطير ، واها لأوقاته من زواهر ما أشرفها ، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها ، أشرقت لياليها بصلاة التراويح ، وأنارت أيامها بالصلاة والتسبيح ، حليتها الإخلاص والصدق ، وثمرتها الخلاص والعتق .

          تيقظ يا غافل وانهض ببدارك ، فمالك لأهلك وأنت ضيف بدارك ، واستدرك قديمك وأصلح بالتقى حديثك ، وامنع لسانك اللغو واجعل الذكر حديثك ، وصحح بمجانبة الهوى إيمانك ويقينك ، وتدرع كلماتي هذه في حرب الغرور يقينك ، إلى متى في حب البطالة منكمش ، وبلذات الكسل جذلان دهش ، وإذا فات الهوى بت من الحزن ترتعش أما رأيت [ ص: 470 ] ذا مال وأمل لم يعش ، أما شغلك الموت عن زخرف قد نقش ، أما تعلم أنك للموت في القبر تفترش ، أما تحذر يوما لا تجد الماء من العطش ، عجبا لموقن بالقيامة لم يجع ولم يعطش .

          كان أصحاب أبي هريرة يعتكفون في رمضان ويقولون : نطهر صيامنا .

          واعتكف أبو محمد الجريري في الحرم سنة لم يمد رجله ولم يضطجع ، فقيل له : كيف قدرت على هذا ؟ فقال : علم صدق باطني فأعانني على ظاهري .

          إخواني : هذا شهر التيقظ ، هذا أوان التحفظ ، إخواني بين أيديكم سفر ، والأعمار فيها قصر ، وكلكم والله على خطر ، كونوا على خوف من القدر ، واعرفوا قدر من قدر ، وتذكروا كيف عصيتم وستر ، وايم الله لو قمتم على البصر ، وسجدتم شكرا على الإبر ما وفيتم بشكر نعيم محتقر ، أما طوى القبيح والجميل نشر ، أما بعض نعمه السمع والبصر .

          إخواني : آن الرحيل وما عندكم خبر ، إلى كم توعظون ولا تتعظون ، وتوقظون ولا تتيقظون ، وتتعبون الناصح ولا تقبلون ، ويكفي في البيان رؤية الأقران يرحلون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون أكلفتم ما لا تطيقون ، أكلمتم بما لا تفهمون ، ما لكم عن مآلكم معرضون ، ما هذا الفتور وأنتم سالمون ، ما هذا الرقاد وأنتم منتبهون :


          أقضي الدهر من فطر وصوم     وآخذ بلغة يوما بيوم
          وأعلم أن غايتي المنايا     فصبرا تلك غاية كل قوم
          فإن تقف الحوادث دون نفسي     فما يتركن إشمامي ورومي

          كم مؤمل إدراك شهر ما أدركه ، فاجأه الموت بغتة فأهلكه ، كم ناظر إلى يوم صومه بعين الأمل طمسها بالممات كف الأجل ، كم طامع أن يلقاه بين أترابه ألقاه الموت في عقر ترابه .


          استغفر الله بقلب منيب     يعلم أن الموت منه قريب
          مأخوذ مال حربا يشتكي     وعادم الدين الأخيذ الحريب
          والإنس جنس كله ظالم     والمنصف العادل فيهم غريب
          والعيش محبوب أتاك الأذى     منه فواها للبغيض الحبيب
          اصبر إذا العام سطا جدبه     فطالما جاءك عام خصيب
          خاطبت أقواما فلم يسمعوا     فهل تشبهت بهم يا خطيب
          تغسل كفيك من الزهم ألا     فاغسل فاك من لفظك حتى يطيب

          [ ص: 471 ] أيها المجتهد هذا ربيع جدك ، أيها الطالب هذه أوقات رفدك ، تيقظ أيها الغافل من سنة البطالة ، تحفظ أيها الجاهل من شبه الضلالة ، اغتنم سلامتك في شهرك قبل أن ترتهن في قبرك ، قبل انقراض مدتك وعدم عدتك وإزماع فوتك وانقطاع صوتك ، وعثور قدمك وظهور ندمك ، فإن العمر ساعات تذهب وأوقات تنهب ، وكلها معدود عليك والموت يدنو كل لحظة إليك .

          أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري بسنده عن محمد بن علي الجربي قال سمعت أحمد بن المغلس قال سمعت سريا السقطي يقول : السنة شجرة ، والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها وأنفاس العباد ثمرتها ، فشهر رجب أيام توريقها ، وشعبان أيام تفريعها ، ورمضان أيام قطفها ، والمؤمنون قطافها ، هذه الأشهر الثلاثة المعظمة كالجمرات الثلاث ، فرجب كأول جمرة تحمى بها العزائم ، وشعبان كالثانية تذوب فيها مياه العيون ، ورمضان كالثالثة تورق فيها أشجار المجاهدات ، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب ! فيا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر وما تغير أحسن الله عزاءك !

          إخواني : إنما شرع الصوم ليقع التقلل ، فأما من أوثق الرزمة فما له نية في البيع ، إذا استوفيت العشاء تكدر الليل بالنوم ، وإذا استوفيت السحور تخبط النهار بالكسل ، وإنما شرع السحور ليتقوى المتقلل من العشاء ولينتبه الغافل ، وما أرى رمضان إلا زادك شبعا وغفلة .

          وا عجبا لو عرض عليك أن تشرب شربة ماء في رمضان لما شربت ولو ضربت ، وأنت فيه تغش في البيع وتطفف في الميزان ، فإذا خرج شربت الخمر في شوال ، أما كان الناهي عن هذا هو الناهي عن ذاك أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض .

          تالله لو قيل لأهل القبور تمنوا لتمنوا يوما من رمضان ، إلى متى أنت في ثياب البطر ، أما تعلم مصير الصور ، عجبا لك تؤمن وتأمن الغير ، أما ينفعك ما ترى من العبر ، أصم السمع أم غشي البصر ، تالله إنك لعلى خطر ، آن الرحيل ودنا السفر ، وعند الممات يأتيك الخبر ، كلما خرجت من ذنوب دخلت في أخر ، يا قليل الصفا إلى كم هذا الكدر ، أنت في رمضان كما كنت في صفر ، إذا خسرت في هذا الشهر فمتى تربح ، وإذا لم تسافر فيه نحو الفوائد فمتى تبرح ، يا من إذا تاب نقض ، يا من إذا عاهد غدر ، يا من إذا قال كذب ، كم سترناك على معصية ، كم غطيناك على مخزية .

          [ ص: 472 ]

          يا عامرا ما يقطن     يا هالكا ما يفطن
          يا ساكن الحجرات ما     بك غير قبرك مسكن
          أحدث لربك توبة     وسبيلها لك ممكن
          فكأن شخصك لم يكن     في الناس ساعة تدفن
          وكأن أهلك قد بكوا     سرا عليك وأعلنوا
          فإذا مضت بك ليلة     فكأنهم لم يحزنوا
          الناس في غفلاتهم     ورحى المنية تطحن
          ما دون دائرة الردى     حصن لمن يتحصن
          ما لي رأيتك تطمئن     إلى الحياة وتركن
          وجمعت ما لا ينبغي     وبنيت ما لا تسكن
          وسلكت فيما أنت في الـ     ـدنيا به متيقن
          أظننت أن حوادث الـ     ـأيام لا تتمكن

          التالي السابق


          الخدمات العلمية