الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قوله تعالى :

          يوم يبعثهم الله جميعا


          البعث : إخراج أهل القبور أحياء عند النفخة الثانية في الصور ، وذلك أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فتنبت الأجساد في القبور ، فتعود كما كانت ، ثم ينفخ إسرافيل في الصور فتنشق القبور ، فيقومون جميعا إلى العرض والحساب فينبئهم بما عملوا من المعاصي وتضييع الفرائض أحصاه الله أي حفظه ونسوه .

          أخبرنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن المذهب أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن محرز ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل يدني المؤمن ويضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " . أخرجاه في الصحيحين .

          وبالإسناد حدثنا أحمد ، قال حدثنا وكيع ، قال حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه فتعرض عليه ويخبأ عنه كبارها ، فيقال عملت كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من كبارها فيقال أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة ، قال : فيقول إن لي ذنوبا ما أراها ، قال أبو ذر فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه " .

          انفرد بإخراجه مسلم .

          [ ص: 286 ] وفي إفراده من حديث الشعبي ، عن أنس قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك وقال : هل تدرون مم أضحك ؟ قال : فقلنا الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه عز وجل يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى ، قال : فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، قال فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل .

          إخواني : ما من الموت بد ، باب البقاء في الدنيا قد سد ، كم قد في القبر قد قد ، كم خد في الأخدود قد خد ، يا من ذنوبه لا تحصى إن شككت عد ، يا من أتى باب الإنابة كاذبا فرد ، يا شدة الوجل عند حضور الأجل ، يا قلة الحيل إذا حل الموت ونزل ، يا قوة الأسى إذا نوقش من أسا ، يا خجل العاصين ، يا حسرة المفرطين ، يا أسف المقصرين ، يا سوء مصير الظالمين ، كيف يصنع من بضائعه القبائح ، كيف يفعل من شهوده الجوارح ، عدموا والله الوسيلة ، وأظلمت في وجوههم وجوه الحيلة ، أصبحوا جثيا على ركبهم ، مأسورين بما في كتبهم ، لا يدرون ما يراد بهم ، قد جمعوا في صعيد ينتظرون حلول الوعيد ، والأرض بالخلق كلهم تميد ، والعبرات على العثرات تزيد ، إن بطش ربك لشديد ، زفرت والله الحطمة في وجوه الظلمة فذلوا بعد العظمة ، وخرسوا عن كلمة .

          إخواني : أيام أعماركم قصيرة ، وقد ضاعت على بصيرة ، وآخر الأمر حفيرة فيها أهوال كثيرة ، يا مشاهدا حاله بحال الحيرة ، ألك عدة أم لك ذخيرة ، هذا الملك يحصي عملك حرفا حرفا ، ويملي فيملأ بالخطايا صحفا ، يا من جمرات حرصه على الهوى ما تطفى ، وقد أشفى به مرض ما أراه يشفى ، إلام هذا التعليل ، كم نقومك وتميل ، متى يبرأ هذا العليل ، يا مقابلا جميلنا بغير الجميل ، آن رحيلا فأعد الزاد ، آن معادا فاذكر المعاد ، ألا يهلك العمر وإن تمادى .

          أيها المعرض عنا تذكر عرضك ، أيها الراقد في غفلته اذكر غمضك ، أيها الذليل بالمعاصي اذكر عرضك ، كم عتاب ما أمرضك ولا أمضك .

          ويحك ! استصغر أملا يمنعه الفوت ، استقصر أجلا يقطعه الموت .

          أقبل على العقل مستشيرا فكفى به نصيحا ونذيرا ، إنه ليحل نقاب الشبه بأنامل البيان .

          أولا يعلم العاصي أنه قد غرس لنفسه شجرة يتساقط عليه كل حين منها ثمرة ندم من غير هز ، فإذا قام في القيامة شاهد أغصان ما غرس قد تعاظمت حتى أخذت بر البر ، فإن [ ص: 287 ] غفر له لم يزل حييا مما جنى ، وإن عوقب ذاق مر الجنى ، وهذا الأسى الطويل إنما جره جرجرة الهوى ، ولو قنع بالطاق التي تسمع بها عين المباح لارتوى من غير أذى .


          المرء في تأخير مدته كالثوب يخلق بعد جدته     ومصيره من بعد معرفة
          للناس ظلمة بيت وحدته     من مات مال ذوو مودته
          عنه وحالوا عن مودته     عجبا لمنتبه يضيع ما
          يحتاج فيه ليوم رقدته     أزف الرحيل ونحن في لعب
          ما نستعد له بعدته

          قال عتبة الغلام : رأيت الحسن عند الموت وقد قهقه ، وما رأيته قط تبسم ، فقلت : يا أبا سعيد من أي شيء تضحك ؟ فما كلمني لثقل حاله ، فلما مات رأيته في المنام فقلت : يا معلم الخير من أي شيء ضحكت ؟ قال : من أمر ملك الموت ، إنه نودي وأنا أسمع : شدد عليه فإنه بقي عليه خطيئة ، فضحكت لذلك ، فقلت : ما كانت ؟ فلم يجبني .

          وا أسفا : هذا حال الحسن وما عرف منه إلا الحسن فكيف يكون حالنا إذن مع ما لنا من محن .

          يا من قد لعب الهوى بفهمه ، وسودت شهواته وجه عزمه ، يا مبنيا عن عزم الباني على هدمه ، يا محمولا إلى البلى لتمزيق لحمه ، أما يكفيه منذرا وهن عظمه ، كم نقربك وأنت متباعد ، كم ننهضك إلى العلا يا قاعد ، كم نحرضك وما تساعد ساعد ، كم نوقظك وأنت في اللهو راقد ، يا أعمى البصيرة وما له قائد ، يا قتيل الأمل لست بخالد ، يا مفرق الهموم والمقصود واحد ، إن لاحت الدنيا فشيطان مارد ، تقاتل عليها فتكر وتطارد ، فإذا جاءت الصلاة فقلب غائب وجسم شاهد ، وتقول قد صليت أتبهرج على الناقد ، ما تعرفنا إلا في أوقات الشدائد ، أما ذنوبك كثيرة فما للطرف جامد ، ملكك الهوى ونحن نضرب في حديد بارد .


          وربما غوفص ذو غفلة     أصح ما كان ولم يستقم
          يا واضع الميت في قبره     خاطبك القبر فلم تفهم

          كم ليلة سهرتها في الذنوب ، كم خطيئة أمليتها في المكتوب ، كم صلاة تركتها مهملا للوجوب ، كم أسبلت سترا على عتبة عيوب ، يا أعمى القلب بين القلوب ، ستدري دمع من يجري ويذوب ، ستعرف خبرك عند الحساب والمحسوب ، أين الفرار وفي كف الطالب بالمطلوب ، تنبه للخلاص أيها المسكين ، أعتق نفسك من الرق يا رهين ، اقلع أصل الهوى [ ص: 288 ] فعرق الهوى مكين ، احذر غرور الدنيا فما للدنيا يمين ، يا دائم المعاصي سجن الغفلة سجين ، تثب على الخطايا ولا وثبة تنين ، كأنك بالموت قد برز من كمين ، وآن الأمر فوقعت في الأنين ، واستبنت أنك في أحوال عنين ، كيف ترى حالك إذا عبثت الشمال باليمين ، ثم نقلت ولقبت بالميت الدفين ، وا أسفا لعظم حيرتك ساعة التلقين ، يا مستورا على الذنوب غدا تنجلي وتبين ، متى هذا القلب القاسي يرعوي ويلين ، عجبا لقسوته وهو مخلوق من طين .


          وقبل شخوص المرء يجمع زاده     وتملأ من قبل الرماء الكنائن
          حصادك يوما ما زرعت وإنما     يدان المرء يوما بما هو دائن

          ساعات السلامة بين يديك مبذولة ، سابق سيوف الآفات فإنها مسلولة ، وبادر ما دامت المعاذير مقبولة ، واقرأ علوم النجاة فهي منقوطة مشكولة ، وافتح عينيك فإلى كم بالنوم مكحولة ، وغير قبائحك القباح المرذولة ، يا لها نصيحة غير أن النفس على الخلائق مجبولة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية