الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          حم والكتاب المبين


          اختلف المفسرون في " حم " على قولين : أحدهما : أنها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، وهذا مذهب جماعة من المفسرين ، والثاني : أنها معروفة المعنى ، ثم لهؤلاء فيها قولان :

          أحدهما : أنها حروف من أسماء ، ولهؤلاء فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أنها من الرحمن ، قال ابن عباس : الر ، وحم ، ون ، اسم الرحمن على الهجاء ، والثاني : أن الحاء مفتاح اسمه حميد والميم مفتاح اسمه مجيد قاله أبو العالية ، والثالث : أن الحاء مفتاح كل اسم ابتداؤه حاء مثل حكيم وحليم وحي ، والميم مفتاح كل اسم ابتداؤه ميم مثل ملك ومجيد ، حكاه أبو سليمان الدمشقي .

          والقول الثاني : أن معنى حم : قضي ما هو كائن ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، كأنه يصير إلى حم بالأمر .

          قال المفسرون : حم قسم جوابه : إنا أنزلناه والهاء كناية عن الكتاب وهو القرآن في ليلة مباركة وفيها قولان : أحدهما أنها ليلة القدر ، قاله الأكثرون ، والثاني : [ ص: 458 ] ليلة النصف من شعبان ، وقد ذكرناه عن عكرمة إنا كنا منذرين أي مخوفين عقابنا فيها يفرق أي يفصل كل أمر حكيم .

          اجتهدوا الليلة في محو ذنوبكم واستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم ، هذه ليلة الإنابة فيها تفتح أبواب الإجابة ، أين اللائذ بالجناب ، أين المتعرض بالباب ، أين الباكي على ما جنى ، أين المستغفر لأمر قد دنا ، كم منقول في هذه الليلة من ديوان الأحياء مثبت في صحف أهل التلف والفنا ، فهو عن قريب يفجأ بالممات وهو مقيم على السيئات ، ألا رب فرح بما يؤتى قد خرج اسمه مع الموتى ، ألا رب غافل عن تدبير أمره قد انقصمت عرى عمره ، ألا رب معرض عن سبيل رشده قد آن أوان شق لحده ، ألا رب رافل في ثوب شبابه قد أزف فراقه لأحبابه ، ألا رب مقيم على جهله قد قرب رحيله عن أهله ، ألا رب مشغول بجمع ماله قد حانت خيبة آماله ، ألا رب ساع في جمع حطامه قد دنا تشتيت عظامه ، ألا رب مجد في تحصيل لذاته قد آن خراب ذاته ، أين من كان مثل هذه الأيام في منازله ينسأ في طمأنينته إزعاج منازله ، مشغولا بشهواته مغرورا بعاجله ، أما أصاب مقاتله سهم مقاتله ، أما ظهر خساره عند حساب معامله ، أين المعتذر مما جناه فقد اطلع عليه مولاه ، أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره ، يا مطرودا ما درى ، تعاتب ولا تفهم ما جرى ، متى ترى على الباب ترى :


          تعالوا كل من حضرا لنطرق بابه سحرا     ونبكي كلنا أسفا
          على من بات قد هجرا

          روي عن كعب الأحبار رضي الله عنهما قال : إن أهل الجنة ليفرحون بدخول شهر رمضان من الحور والخزنة والولدان كما يفرح أهل النار من ذرية آدم بدخول الجنة إذا سكنوها ، وذلك أن الله عز وجل يبعث جبريل عليه السلام في ليلة النصف من شعبان فيقول : السلام عليكن أيتها الجنان أنا جبريل الأمين رسول رب العالمين تزيني وتجددي وازدادي نورا وتلألئي وافتحي أبواب مقاصيرك المرجانية وحجالك العبقرية التي بطائنها من إستبرق وحشوها أذفريات المسك ، وأخرجي متضمنات المخلوقات التي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، فإن الله عز وجل قد أعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء وعدد أيام الدنيا ولياليها وعدد ورق الشجر وزنة الجبال وعدد الرمال .

          يا مضيعا اليوم تضيعه أمس ، تيقظ ويحك فقد قتلت النفس ، وتنبه للسعود فإلى كم نحس ، واحفظ بقية العمر فقد بعت الماضي بالبخس .


          أطل جفوة الدنيا وتهوين شأنها     فما العاقل المغرور فيها بعاقل
          [ ص: 459 ] يرجي خلودا معشر ضل ضلهم     ودون الذي يرجون غول الغوائل
          وليس الأماني للبقاء وإن مضت     بها عادة إلا تعاليل باطل
          وما المفلتون أجمل الدهر فيهم     بأكثر ممن في عداد الحبائل
          يسار بنا قصد المنون وإننا     لنسعف أحيانا بطي المراحل
          غفلنا عن الأيام أطول غفلة     وما جوبها المخشي منها بغاقل

          إخواني حبال الأمل رثاث ، وساحر الهوى نفاث ، رحل الأقران إلى ظلاء الأجداث ، لله ما صنعت الأجداث في الأحداث ، أفسدهم بلاهم فإذا هم بلاهم إي والله وعاث ، باتوا شباعا من الأمل فإذا هم غراث وبان لهم أن ما كانوا فيه من الهوى أضغاث واستغاثوا بالخلاص وقد فات الغيات ، عجبا لهم ما لهم صير النوى مالهم في الميراث ، فدبروا أنتم أحوالكم فغدا ترون أموالكم للوراث ، أسفا لأجسام ذكور وعقول إناث .


          أكب بنو الدنيا عليها وإنها     لتنهاهم الأيام عنها لو انتهوا
          مضى قبلنا قدما قرون كثيرة     
          سيبكون حزنا حول قبرك ساعة     
          رأيت بني الدنيا إذا ما سموا بها     

          يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه ، يا مؤثر الهوى على التقى لقد ضاع حزمه ، يا معتقدا صحته فيما هو سقمه ، يا من كلما زاد عمره زاد إثمه ، يا طويل الأمل وقد رق عظمه ، أما وعظك الزمان وزجرك ملمه ، أين الشباب قل لي قد بان رسمه ، أين زمان المرح لم يبق إلا اسمه ، أين اللذة ذهب المطعوم وطعمه ، كيف يقاوي المقاوي والموت خصمه ، كيف خلاص من قد أغرق فيه سهمه ، يا لديغ الأمل قد بالغ سمه ، يا قليل العبر وقد رحل أبوه وأمه ، يا من سيجمعه اللحد عن قليل ويضمه ، كيف يوعظ من لا يعظه عقله ولا فهمه ، كيف يوقظ من نام قلبه لا عينه ولا جسمه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية