الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 270 ] المجلس الثالث والعشرون

          في قصة يونس عليه السلام

          الحمد لله الواحد الماجد العظيم ، الدائم العالم القائم القديم ، القدير البصير النصير الحليم ، القوي العلي الغني الحكيم ، قضى فأسقم الصحيح وعافى السقيم ، وقدر فأعان الضعيف وأوهى القويم ، وقسم عباده قسمين طائع وأثيم ، وجعل مآلهم إلى دارين دار النعيم ودار الجحيم ، فمنهم من عصمه من الخطايا كأنه في حريم ، ومنهم من قضى له أن يبقى على الذنوب ويقيم ، ومنهم من يتردد بين الأمرين والعمل بالخواتيم ، خرجموسى راعيا وهو الكليم ، وذهب ذو النون مغاضبا فالتقمه الحوت وهو مليم ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يتيما فكان الكون لذلك اليتيم ، وعصى آدم وإبليس فهذا مرحوم وهذا رجيم ، فإذا سمعت بنيل الممالك أو رأيت وقوع المهالك فقل : ذلك تقدير العزيز العليم أنعم علينا بالفضل الوافر العميم ، وهدانا بمنه إلى الصراط المستقيم ، وحذرنا بلطفه من العذاب الأليم ، ومن علينا بالكتاب العزيز القديم ، فهو مستحق الحمد ومستوجب التعظيم ، أحمده وكيف لا يحمد ، وأشهد أنه لم يلد ولم يولد ، وأن محمدا عبده الأمجد ورسوله الأوحد ، أخذ له الميثاق على أقرب الأنبياء والأبعد ، وأقام عيسى يقول : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وتوسل به آدم وقد أسجد له من أسجد من ملك كريم ، صلى الله عليه وسلم ما سلك الطريق القويم ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان والتصديق ، المحب الشفيق والرفيق الرقيق حين يسافر وحين يقيم ، وعلى عمر الذي عمر من الدين ما عمر ودفع الكفر فدبر بأحسن تدبير وأكمل تقويم ، وعلى عثمان الشريف قدره الكثيف ستره الذي احتسب عند الله صبره على ما ضيم ، وعلى علي مدار العلماء وقطبهم ، ومقدم الشجعان في حربهم والمؤمنون من كربهم في مقعد مقيم ، وعلى العباس عمه وصنو أبيه ، أقرب الخلق إليه نسبا يليه .

          قال الله تعالى : وإن يونس لمن المرسلين يونس اسم أعجمي ، وفيه ست لغات : ضم النون وفتحها وكسرها والهمز مع اللغات الثلاث .

          وكان يونس من ولد يعقوب ، وكان عابدا من عباد بني إسرائيل فرأى ما هم فيه من [ ص: 271 ] الكفر ، فخاف أن تنزل بهم عقوبة ، فخرج هاربا بنفسه وذريته وكانوا بنينوى قرية من أرض الموصل ، فبعثه الله رسولا إليهم فدعاهم إلى الله تعالى وأمرهم بترك عبادة الأوثان ، وكان رجلا فيه حدة ، فلما لم يقبلوا أخبرهم أن العذاب مصبحهم بعد ثلاث ، فأقبل العذاب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يبق بين العذاب وبينهم إلا قدر ثلثي ميل ووجدوا حره على أكتافهم ، وقال سعيد بن جبير : غشيهم العذاب كما يغشى الثوب الضفر ، وقال غيره : غامت السماء غيما أسود يظهر دخانا شديدا فغشى مدينتهم فاسودت أسطحتهم ، فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح وحثوا على رؤوسهم الرماد ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام وعجوا إلى الله تعالى بالتوبة الصادقة وقالوا : آمنا بما جاء به يونس ، فكشف عنهم العذاب فقيل ليونس : ارجع إليهم فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا ، وكان من يكذب فيهم يقتل ، فركب السفينة مغاضبا .

          فإن قيل : فلمن غاضب ؟ فالجواب : أنه غاضب قومه قبل التوبة واشتهى أن ينزل بهم العذاب لما عانى من تكذيبهم ، فعوتب على كراهية العفو عنهم ، فلما ركب السفينة وقفت : فقال : ما لسفينتكم ؟ قالوا : لا ندري ، قال : لكني أدري ، فيها عبد أبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه ، قالوا أما أنت والله يا نبي الله لا نلقيك ، قال : فاقترعوا فقرع يونس ، وهو معنى قوله تعالى : فساهم فألقى نفسه في الماء فالتقمه الحوت وهو مليم أي مذنب فلولا أنه كان من المسبحين أي من المصلين قبل التقام الحوت ، وقيل : بل في بطن الحوت .

          وفي قدر مكثه في بطن الحوت خمسة أقوال : أحدها : أربعون يوما ، قاله أنس وكعب وابن جريج ، والثاني : سبعة أيام ، قاله سعيد بن جبير ، والثالث : ثلاثة أيام ، قاله مجاهد وقتادة ، والرابع : عشرون يوما ، قاله الضحاك ، والخامس ، بعض يوم ، قال الشعبي : ما مكث إلا أقل من يوم ، التقمه الحوت ضحى فلما كان بعد العصر وقاربت الشمس الغروب تثاءب الحوت فرأى يونس ضوء الشمس فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .

          فنبذناه بالعراء وهي الأرض التي لا يتوارى فيها بشجر ولا غبرة وهو سقيم أي مريض ، قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس له ريش وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [ ص: 272 ] وهي الدباء وإنما أنبتت عليه دون غيرها ليغطيه ورقها ويمنع الذباب عنه فإنه لا يسقط على ورقه ذبابة ، وقيض الله تعالى أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشية فيشرب من لبنها ، وقال وهب بن منبه : أنبت الله عليه الدباء فأظلته ، ورأى خضرتها فأعجبته ، ثم نام فاستيقظ وقد يبست فحزن عليها فقيل له : أنت لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها ، وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك ! .

          قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف المعنى : وكنا أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون المعنى : بل يزيدون ، قاله ابن عباس ، والثاني : أنها بمعنى الواو تقديره : ويزيدون قاله ابن قتيبة .

          وفي زيادتهم أربعة أقوال : أحدها : عشرون ألفا ، رواه أبي ابن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثاني : ثلاثون ألفا ، والثالث : بضعة وثلاثون ألفا ، والقولان عن ابن عباس ، والرابع : سبعون ألفا ، قاله سعيد بن جبير .

          فإن قيل : كيف قبلت توبتهم ولم يقبل إيمان فرعون .

          فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن ذلك كان خاصا لهم ، كما في الآية ، والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء لم يباشرهم ، ذكره الزجاج ، والثالث : أن الله تعالى علم منهم صدق النيات بخلاف غيرهم ، ذكره ابن الأنباري .

          فانظروا إخواني إلى التوبة النصوح الصادقة كيف أثرت ، وقاومت العذاب فدفعت ونفعت ، فليلجإ العاصي إلى حرم الإنابة ، وليطرق بالأسحار باب الإجابة ، فما صدق صادق فرد ، ولا أتى الباب مخلص فصد ، وكيف يرد من قد استدعي فقيل لهم : توبوا إنما الشأن في صدق التوبة .

          وليست التوبة نطق اللسان إنما هي ندم القلب وعزمه أن لا يعود ، ومن شرط صحتها : أن تكون قبل معاينة أمور الآخرة ، فمن باشره العذاب أو عاينه فقد فات موسم القبول ، فاستدركوا قبل المفاجأة بالفوات الذي لا يؤمن نسأل الله يقظة تحركنا إلى البدار قبل أن يقع الفوت والخسار .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية