الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 184 ] المجلس الخامس عشر

          في قصة سيدنا موسى عليه السلام

          الحمد لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجارى ، ولا شريك له فيدارى ، ولا معترض له فيمارى ، بسط الأرض قرارا وأجرى فيها أنهارا ، وأخرج زرعا وثمارا ، وأنشأ ليلا ونهارا ، خلق آدم وأسكنه الجنة دارا ، فغفل عن النهي وما دارى ، أمر أن يأخذ يمينا فأخذ يسارا ، وأهبط فقيرا قد عدم يسارا غير أنه جبر منه بقبول توبته انكسارا ، وأقامه خليفة ويكفيه افتخارا ، ثم ابتعث الأنبياء من ذريته ونصب لهم من أدلته منارا ، وجعل إدريس ونوحا والخليل رؤوسا وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا .

          أحمده سرا وجهارا ، وأصلي على رسوله محمد الذي أصبح وادي النبوة برسالته معطارا ، وعلى صاحبه أبي بكر المنفق سرا وجهارا ، وعلى عمر الفاروق الذي لاث عن وجهه الإسلام خمارا ، وعلى عثمان الذي صرف على جيش العسرة بإنفاقه إعسارا ، وعلى علي أخيه وابن عمه الذي لا يتمارى ، وعلى عمه العباس أبي الخلفاء ويكفيهم افتخارا .

          قال الله عز وجل : وهل أتاك حديث موسى هل بمعنى قد ، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم هل بلغت .

          وموسى : هو ابن عمران بن قاهث ابن لاوي بن يعقوب ، واسم أمه يوخابذ وبين موسى وإبراهيم ألف سنة ، وكانت الكهنة قد قالوا لفرعون : يولد مولود من بني إسرائيل يكون هلاكك على يده فأمر بذبح أبنائهم ثم شكت القبط إلى فرعون فقالوا إن دمت على الذبح لم يبق لنا من بني إسرائيل من يخدمنا ، فصار يذبح سنة ويترك سنة ، فذبح سبعين ألف مولود ، وولد هارون في السنة التي لا يذبح فيها ، وولد موسى في السنة التي يذبح فيها ، فولدته أمه وكتمت أمره فدخل الطلب إلى بيتها فرمته في التنور ، فسلم ، فخافت عليه فصنعت له تابوتا وألقته في اليم ، فحمله الماء إلى أن ألقاه إلى فرعون ، فلما فتح التابوت نظر إليه فقال : عبراني من الأعداء كيف أخطأه الذبح ؟ فقالت آسية : دعه يكون قرة عين لي ولك ، وكان لا يولد لفرعون إلا البنات ، فتركه .

          [ ص: 185 ] ولما رمته أمه أدركها الجزع فقالت لأخته مريم قصيه ، فدخلت دار فرعون ، وقد عرضت عليه المرضعات فلم يقبل ثديا ، فقالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم فجاؤوا بأمه فشرب منها ، فلما تم رضاعه ردته إلى فرعون فأخذه يوما في حجره فمد يده للحيته فقال : علي بالذباح فقالت آسية : إنما هو صبي لا يعقل ، وأخرجت له ياقوتا وجمرا فأخذ جمرة فطرحها في فيه فأحرقت لسانه فذلك قوله : واحلل عقدة من لساني .

          فلما كبر كان يركب مراكب فرعون ويلبس ملابس فرعون ، فلما جرى القدر بقتل القبطي وعلموا أنه هو القاتل خرج عنهم فهداه الله إلى مدين ، فسقى لبنتي شعيب واسمهما صفورا وليا ، فاستدعاه شعيب وزوجه صفورا ، ثم خرج بزوجته يقصد أرض مصر فولدت له في الطريق فقال لأهله : امكثوا أي أقيموا إني آنست نارا أي أبصرت ، وإنما رأى نورا ، ولكن وقع الإخبار بما كان في ظنه ، والقبس : ما أخذته من النار في رأس عود أو فتيلة أو أجد على النار هدى وكان قد ضل الطريق فعلم أن النار لا تخلو من واقد .

          أخبرنا محمد بن أبي منصور ، أنبأنا جعفر بن أحمد ، أنبأنا أبو علي التميمي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثنا عبد الصمد بن مغفل ، عن وهب بن منبه ، قال : لما رأى موسى النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من فروع شجرة خضراء شديدة الخضرة لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا ، فوقف ينظر لا يدري ما يصنع أمرها ، إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحرق أوقد إليها موقد فنالها فاحترقت ، وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة ما بها ، فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه ، فلما طال ذلك عليه أهوى إليها بضغث في يده ليقتبس فمالت نحوه كأنها تريده ، فاستأخر ثم عاد ، فلم يزل كذلك فما كان بأوشك من خمودها فتعجب وقال إن لهذه النار لشأنا ، فوقف متحيرا فإذا بخضرتها قد صارت نورا عمودا ما بين السماء والأرض ، فاشتد خوفه وكاد يخالط في عقله من شدة الخوف ، فنودي من الشجرة : يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه فقال : لبيك من [ ص: 186 ] أنت ، أسمع صوتك ولا أرى مكانك ، فأين أنت ؟ قال : أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فآمن به فقال : كذلك أنت يا إلهي ، فكلامك أسمع أم كلام رسولك فقال : بل أنا الذي أكلمك فادن مني ، فجمع موسى يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فارتعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه ولم يبق منه عظم يحمل الآخر ، وهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة فقال له الرب تعالى : وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي قال : وما تصنع بها ؟ قال : أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى وكانت لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين قال ألقها يا موسى فظن أنه يقول له ارفضها فألقاها على وجه الرفض ، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظر يدب يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيقتلعها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجذبها ، وعيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك ، وعادت الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف ، فلما عاين موسى ولى مدبرا ، فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه عز وجل فوقف استحياء منه .

          ثم نودي : يا موسى إلي فارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف فقال : خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف قد خللها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها ثنى طرف المدرعة على يده فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله عز وجل لما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال : لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت ، فكشف عن يده ثم وضعها في في الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يداه في الموضع الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين ، فقال الله عز وجل : ادن فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، ثم جمع يديه في العصا وخشع برأسه وعنقه ثم قال له : إني قد أقمتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ، أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي ، فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري ، فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد دوني [ ص: 187 ] وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته وإن أمرت البحار غرقته ، ولكن هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي ، وحق لي ، إني أنا الله الغني لا غني غيري ، فبلغه رسالاتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي والإخلاص باسمي ، وذكره بأيامي وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أني أنا الغفور والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يرعك ما ألبسه من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ، ليس يطرف ولا ينطق ولا يتكلم ولا يتنفس إلا بإذني ، قل له : أجب ربك عز وجل فإنه واسع المغفرة ، وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة وفي كلها أنت مبارز بمحاربته تشبه وتمثل به ، وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض ، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم يغلب ، ولو شاء أن يعجل ذلك لك أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة وحلم ، وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما محتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني ، تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبكما زينته وما متع به ولا تمدان إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ، فإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما آتيتكما فعلت ، ولكن أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديما ما خرت لهم في ذلك فإني أذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة ، وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطفه الهوى .

          واعلم أنه لم يتزين العباد بزينة أبلغ من الزهد في الدنيا ، وإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك .

          واعلم أن من أهان لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم بي ؟ أو يظن الذي يعاديني أن يعجزني ؟ أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ؟ فكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري .

          قال : فأقبل موسى إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها والأسد فيها مع ساستها إذا أسدتها على أحد أكل ، وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ، [ ص: 188 ] فأقبل موسى من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب ، فأنكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون ، فأقبل موسى حتى انتهى إلى الباب فقرعه بعصاه وعليه جبة صوف وسراويل ، فلما رآه البواب عجب من جرأته ، فتركه ولم يأذن له وقال : هل تدري باب من أنت تضرب ! إنما تضرب باب سيدك ! فقال : أنا وأنت وفرعون عبيد الله عز وجل وأنا ناصره ، فأخبر البواب الذي يليه حتى بلغ ذلك أدناهم ، ودونهم سبعون حاجبا كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله عز وجل كأعظم أمير اليوم إمارة ، حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال أدخلوه علي ، فأدخل فقال له فرعون : أعرفك ، قال : نعم .

          قال : ألم نربك فينا وليدا ، فردد موسى عليه السلام الذي ذكره الله عز وجل في القرآن ، فقال : خذوه .

          فبادرهم موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، فحملت على الناس فانهزموا فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت وقال لموسى : اجعل بيني وبينك أجلا ننظر فيه ، فقال موسى : لم أومر بذلك وإنما أمرت بمناجزتك ، فإن أنت لم تخرج إلي دخلت عليك .

          فأوحى الله تعالى إلى موسى : أن اجعل بينك وبينه أجلا ، وقل له يجعله هو ، فقال فرعون : اجعله إلى أربعين يوما ، ففعل ، وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في أربعين يوما مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة . قال : وخرج موسى فلما مر بالأسد مضغت بأذنابها وسارت مع موسى تشيعه ولا تهيجه .

          قال علماء السير : قال له فرعون إن كنت جئت بآية فأت بها فألقى العصا ثم أخرج يده وهي بيضاء لها نور كالشمس ، فبعث فرعون فجمع السحرة وكانوا سبعين ألفا ، وكان رؤوسهم سابور وعازور وحطحط ومصفى ، وهم الذين آمنوا ، فجمعوا حبالهم وعصيهم وتواعدوا يوم الزينة وكان عيدا لهم فألقوا يومئذ ما معهم ، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا ، فسجدت السحرة فقتلهم فرعون .

          ثم جاء الطوفان وهو مطر أغرق كل شيء لهم ، ثم الجراد فأكل زرعهم ، والقمل وهو الدبا ، والضفادع فملأت البيوت والأواني ، والدم فكان الإسرائيلي يستقي ماء ويستقي القبطي من ذلك الموضع دما ، فمكث موسى يريهم هذه الآيات عشرين سنة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية