الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 275 ] الكلام على قوله تعالى :

          أفرأيت إن متعناهم سنين


          اعلم أن الآدمي ابن وقته ، لأن ما مضى لا لذة له ، لا تغترر بمد المهل ولا تنس قرب الأجل ، فالأيام مراحل وستصل الرواحل ، تأهب لحوض سترده ، يا خاسرا رأس المال وما يفتقده ، يا طالبا طول البقاء وما يجده .


          دهر يشيع سبته أحده متتابع ما ينقضي أمده     يوم يبكينا وآونة
          يوم يبكينا عليه غده     نبكي على زمن ومن زمن
          فبكاؤنا موصولة مدده     ونرى مكارهنا مخلدة
          والعمر يذهب فائتا عدده     لا خير في عيش تخوننا
          أوقاته وتغولنا مدده     من أقرض الأيام أتلفها
          وقضى جميع قروضها جسده     حتى يغيب في مطمطمة
          لا أهله فيها ولا ولده

          تدبروا أموالكم تدبر ناظر ، أين السلطان الكبير القاهر ، كم جمع في مملكته من عساكر ، وكم بنى من حصون ودساكر ، وكم تمتع بحلل وأساور ، وكم علا على المنابر ثم آخر الأمر إلى المقابر ، العاقل من ينظر فيما سيأتي ، ويقهر بعزمه شر الهوى العاتي ، وإذا قالت النفس حظي قال حظي نجاتي .


          عجبت لما تتوق النفس جهلا     إليه وقد تصرم لانبتات
          وعصياني العذول وقد دعاني     إلى رشدي وما فيه نجاتي
          أؤمل أن أعيش وكل يوم     بسمعي رنة من معولات
          وأيدي الحافرين تكل مما     تسوي من مساكن موحشات
          نراع إذا الجنائز قابلتنا     ونسكن حين تخفى ذاهبات
          كروعة قلة لظهور ذيب     فلما غاب عادت راتعات
          فإن أملت أن تبقى فسائل     بما أفنى القرون الخاليات
          فكم من ذي مصانع قد بناها     وشيدها قليل الخوف عاتي
          قليل الهم ذو بال رخي     أصم عن النصائح والعظات
          فبات وما تروع من زوال     صحيحا ثم أصبح ذا شكات
          [ ص: 276 ] فباكره الطبيب فريع لما     رآه لا يجيز إلى الدعاة
          فلو أن المفرط وهو حي     توخى الباقيات الصالحات
          لفاز بغبطة وأصاب حظا     ولم يغش الأمور الموبقات
          فيا لك عندها عظة لحي     ويا لك من قلوب قاسيات
          وكل أخي ثراء سوف يمسي     عديما والجميع إلى شتات
          كأن لم يلف شيئا ما تقضى     وليس بفائت ما سوف ياتي

          كأنك بك وقد مل الناعت ، وحل بمحلك المستلب الباغت ، وردك من مقام ناطق إلى حال صامت ، وبقيت متحيرا كالأسير الباهت ، وإنما هي نفس تخرج ونفس هافت ، وقد مضى فمن يرد الفائت ، وصرت في حالة يرثي لها الشامت ، يا عجبا كيف يفرح هالك فائت .

          عباد الله : النظر النظر إلى العواقب ، فإن اللبيب لها يراقب ، أين تعب من صام الهواجر ، وأين لذة العاصي الفاجر ، رحلت اللذة من الأفواه إلى الصحائف ، وذهب نصب الصالحين بجزع الخائف ، فكأن لم يتعب من صابر اللذات وكأن لم يلتذ من نال الشهوات .

          أخبرنا هبة الله بن محمد ، أنبأنا أبو الحسين بن علي ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له : يا بن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا ، والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له : يا بن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط . انفرد بإخراجه مسلم .

          وقيل : حبس بعض السلاطين رجلا زمانا طويلا ثم أخرجه قفال له : كيف وجدت محبسك ؟ قال : ما مضى من نعيمك يوم إلا ومضى من بؤسي يوم ، حتى يجمعنا يوم .

          وروينا أن داود عليه السلام رأى راهبا في قلة جبل فصاح به : يا راهب من أنيسك ، فقال : اصعد تره ، فصعد داود فإذا ميت مسجى قال : من هذا ؟ قال : قصته مكتوبة عند رأسه ، فدنا داود عليه السلام فإذا عند رأسه لوح عليه مكتوب فقرأه فإذا فيه : أنا فلان بن فلان ملك الأملاك ، عشت ألف عام ، وبنيت ألف مدينة ، وهزمت ألف عسكر ، وأحصنت [ ص: 277 ] ألف امرأة ، وافتضضت ألف عذراء ، فبينما أنا في ملكي أتاني ملك الموت فأخرجني ، مما أنا فيه فها أنذا : التراب فراشي والدود جيراني ، قال : فخر داود مغشيا عليه .


          حصلوا بأنواع من الأحداث     من كل ما عمروا على الأجداث
          فإذا الذي جمعوه طول حياتهم     نهب العدى وقسيمة الوراث
          حالت منازلهم على طول المدى     ووجوههم في الأرض بعد ثلاث
          يا من يسر ببيته وأثاثه     لك في الثرى بيت بغير أثاث

          أخبرنا أبو القاسم الحريري ، أنبأنا أبو بكر الخياط ، حدثنا أبو عبيد الله بن روسب ، حدثنا ابن صفوان ، حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا الحسن بن جمهور ، حدثنا الهيثم بن عدي ، عن عبد الله بن عباس وابن حصين بن عبد الرحمن وغيره ، عن عمرو بن ميمون ، عن جرير بن عبد الله قال : افتتحنا بفارس مدينة فدللنا على مغارة ذكر لنا أن فيها أموالا ، فدخلناها ومعنا من يقرأ بالفارسية فأصبنا في تلك المغارة من السلاح والأموال شيئا كثيرا ، ثم صرنا إلى بيت يشبه الأزج عليه صخرة عظيمة فقلبناها ، وإذا في الأزج سرير من ذهب عليه رجل وعليه حلل قد تمزقت وعند رأسه لوح فيه مكتوب فقرئ لنا فإذا فيه : أيها العبد المملوك لا تتجبر على خالقك ، ولا تعد قدرك التي جعل الله لك ، واعلم أن الموت غايتك وإن طال عمرك وأن الحساب أمامك ، وأنك إلى مدة معلومة تترك ثم تؤخذ بغتة أحب ما كانت الدنيا إليك ، فقدم لنفسك خيرا تجده محضرا ، ، وتزود لنفسك من متاع الغرور ليوم فاقتك ، أيها العبد الضعيف اعتبر بي فإن في معتبرا ، أنا بهرام بن بهرام ملك فارس ، كنت من أعلاهم بطشا وأقساهم قلبا وأطولهم أملا ، وأرغبهم في اللذة ، وأحرصهم على جمع الدنيا ، قد جبيت البلاد النائية ، وقتلت الملوك الساطية ، وهزمت الجيوش العظام وعشت خمسمائة عام ، وجمعت من الدنيا ما لم يجمعه أحد قبلي ، فلم أستطع أن أفتدي نفسي من الموت إذ نزل بي .

          وقال محمد بن سيرين : أخذت معاوية قرة أي من البرد فاتخذ أغشية خفاقا فكانت تلقى عليه فلا يلبث أن ينادي : ادفعوها ، فإذا أخذت عنه سأل أن ترد عليه فقال : قبحك الله من دار ! مكثت فيك عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة ، ثم صرت إلى ما أرى ! .

          وكان عبد الملك بن مروان يقول عند موته : والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنيمات في جبالها ، ولم أكن ألي من هذا الأمر شيئا .


          كل حي لاقى الحمام فمودي     ما لحي مؤمل من خلود
          لا تهاب المنون شيئا ولا تبـ     ـقي على والد ولا مولود
          [ ص: 278 ] يقدح الدهر في شماريخ رضوى     ويحط الصخور من هبود
          ولقد تترك الحوادث والأيا     م وهيا في الصخرة الصيخود
          وأرانا كالزرع يحصده الدهـ     ر فمن بين قائم وحصيد
          وكأنا للموت ركب مخبو     ن سراعا لمنهل مورود
          أيها الجاهل الذي أمن الدهـ     ـر وفي الدهر عاقرات الخدود
          أين عاد وتبع وأبو ساسا     ن كسرى وأين صحب ثمود
          أين رب الحصن الحصين بسورا     ء بناه وشاده بالشيد
          شد أركانه وصاغ له العقيا     ن بابا وحفه بالجنود
          كان يجبى إليه ما بين صنعا     ء ومصر إلى قرى بيرود
          وترى حوله زرافات خيل     حافلات تعدو بمثل الأسود
          فرمى شخصه فأقصده الدهـ     ـر بسهم من المنايا شديد
          ثم لم ينجه من الموت حصن     دونه خندق وباب حديد

          وملوك من قبله عمروا الدنـ     ـيا أعينوا بالنصر والتأييد

          بينما ذاك مرت الطير تجري     لهم بالنحوس لا بالسعود
          وصروف الأيام أسهلن بالحيـ     ـن إليه من المحط الكؤود
          ما وقاهم ما حاولوا لوعة الدهـ     ـر وما أكدوا من التأكيد
          وكذاك العصران لا يلبثان الـ     ـمرء أن يأتياه بالموعود
          وبعيد ما ليس يأتي وما يدنيـ     ـه منك العصران غير بعيد

          التالي السابق


          الخدمات العلمية