الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الخامس : في ذكر الصيام

          الحمد لله خالق الدجى والصباح ، ومسبب الهدى والصلاح ، ومقدر الغموم والأفراح ، الجائد بالفضل الزائد والسماح ، مالك الملك المنجي من الهلك ، ومسير الفلك والفلك مسير الجناح ، عز فارتفع ، وفرق وجمع ، ووصل وقطع ، وحرم وأباح ، ملك وقدر ، وطوى ونشر ، وخلق البشر وفطر الأشباح ، رفع السماء وأنزل الماء وعلم آدم الأسماء وذرى الرياح ، أعطى ومنح ، وأنعم ومدح وعفا عمن اجترح وداوى الجراح ، علم ما كان ويكون ، وخلق الحركة والسكون ، وإليه الرجوع والركون في الغد والرواح ، يتصرف في الطول والعرض ، وينصب ميزان العدل يوم العرض الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح .

          أحمده وأستعينه ، وأتوكل عليه وأسأله التوفيق لعمل يقرب إليه ، وأشهد بوحدانيته عن أدلة صحاح ، وأن محمدا عبده المقدم ورسوله المعظم ، وحبيبه المكرم ، تفديه الأرواح ، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى أبي بكر رفيقه في الغار ، وعلى عمر فتاح الأمصار ، وعلى عثمان شهيد الدار ، وعلى علي الذي يفتك رعبه قبل لبس السلاح ، وعلى العباس عمه صنو أبيه أقرب من في نسبه يليه .

          اعلموا أن الصوم من أشرف العبادات ، وله فضيلة ينفرد بها عن جميع التعبدات ، وهي إضافته إلى الله عز وجل بقوله عز وجل : " الصوم لي وأنا أجزي به " .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، يقول الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، وللصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم جنة " .

          [ ص: 610 ] قال أحمد : وحدثنا أحمد بن عبد الملك ، عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن للجنة بابا يقال له الريان . يقال يوم القيامة : أين الصائمون ؟ هلموا إلى باب الريان ، فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب ، وفي لفظ : فلم يدخل منه أحد غيرهم .

          هذان الحديثان في الصحيحين .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي أمامة ، قال : أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوا فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ادع لي بالشهادة . فقال : اللهم سلمهم وغنمهم . قال : فغزونا فسلمنا وغنمنا . قال : ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوا ثانيا فأتيته فقلت : يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة . فقال : اللهم سلمهم وغنمهم . قال : فغزونا فسلمنا وغنمنا . ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوا ثالثا . فقلت : يا رسول الله قد أتيتك مرتين أسألك أن تدعو الله لي بالشهادة فقلت : اللهم سلمهم وغنمهم ، يا رسول الله فادع الله لي بالشهادة . فقال : اللهم سلمهم وغنمهم . قال : فغزونا فسلمنا وغنمنا ، ثم أتيته بعد ذلك فقلت : يا رسول الله مرني بعمل آخذه عنك ينفعني الله به ، قال : " عليك بالصوم لأنه لا مثل له " .

          وكان أبو أمامة وامرأته وخادمه لا يلفون إلا صياما ، فإن رأوا عندهم نارا دخانا بالنهار في منزلهم عرفوا أن قد اعتراهم ضيف ، قال : ثم أتيته بعد ذلك فقلت : يا رسول الله إنك قد أمرتني بأمر وأرجو أن يكون الله عز وجل قد نفعني به ، فمرني بأمر آخر ينفعني الله به ، قال : " اعلم أنك لا تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة أو حط أو قال وحط - شك مهدي - عنك بها خطيئة " .

          أخبرنا عبد الوهاب الحافظ بسنده ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : خرجنا غازين في البحر ، فبينما نحن والريح لنا طيبة والشراع لنا مرفوع ، فسمعنا مناديا ينادي : يا أهل السفينة قفوا أخبركم حتى والى بين سبعة أصوات . قال أبو موسى : فقمت على صدر السفينة فقلت : من أنت ومن أين أنت ؟ أو ما ترى ما نحن فيه ، وهل نستطيع وقوفا ؟ فأجابني الصوت : ألا أخبركم بقضاء قضاه الله عز وجل على نفسه ؟ قال : قلت : بلى أخبرنا . قال : فإن الله سبحانه قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . قال : فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان فيصومه !

          [ ص: 611 ] واعلم أن للصوم آدابا منها : كف النظر واللسان عن الفضول ، والإفطار على الحلال وتعجيله ، وأن يفطر على تمر . قال وهب بن منبه : إذا صام الإنسان زاغ بصره ، فإذا أفطر على حلاوة عاد بصره .

          ويقول إذا أفطر : اللهم لك صمت ، وعلى رزقك أفطرت ، وعليك توكلت . ويستحب السحور وتأخيره .

          وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا كان أحدكم يوما صائما فلا يجهل ، ولا يرفث ، فإن امرؤ قاتله أو شتمه فليقل : إني صائم " .

          وقد لا تخلص النية ، ولا يحصل الأجر : أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي بسنده عن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر " .

          فأما ما يستحب صيامه ، فقد كان جماعة من السلف يصومون المحرم .

          وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم " .

          وفي أفراده من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في صوم يوم عاشوراء : " يكفر السنة الماضية " .

          وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في شهر من السنة أكثر من صيامه من شعبان كان يصومه كله .

          وفي أفراده من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر " .

          [ ص: 612 ] وفي أفراده من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده " .

          وفي أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبواب الجنة تفتح في يوم الاثنين والخميس " .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده ، عن أبي سعيد المقبري ، قال : حدثني أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله إنك تصوم لا تكاد تفطر ، وتفطر لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما ، قال : أي يومين ؟ قلت : يوم ، الاثنين والخميس . قال : ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " .

          ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر . ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وركعتي الضحى ، وأن أوتر قبل أن أنام " .

          وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام ، فصم ثالث عشر ، ورابع عشر ، وخامس عشر " .

          وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحب الصيام إلى الله ، صيام داود عليه السلام : كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وأحب الصلاة إلى الله ، صلاة داود : كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه " ، وقد كان جماعة من السلف يغتنمون العمر فيسردون الصوم ولا يفطرون إلا الأيام المحرمة . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرد الصوم ، وسرده أبو طلحة أربعين سنة ، وأبو أمامة . وسردته عائشة ، وعروة ، وسعيد بن المسيب .

          أخبرنا المحمدان : ابن عبد الملك ، وابن ناصر ، قالا : أنبأنا أحمد بن الحسن بن خيرون ، [ ص: 613 ] قال : قرئ على أبي علي بن شاذان : أخبركم أبو بكر الأرموي القارئ ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا عبد العزيز ، قال : قال نافع : خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ، ومعه أصحاب له ، فوضعوا سفرة لهم ، فمر بهم راع فقال له عبد الله : هلم يا راعي فأصب من هذه السفرة ، فقال : إني صائم . فقال له عبد الله : في مثل هذا اليوم الشديد حره ، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم ، وبين هذه الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم ؟ ! فقال الراعي : أبادر أيامي الخالية . فعجب ابن عمر ، وقال : هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها نطعمك من لحمها ما تفطر عليه ، ونعطيك ثمنها ؟ قال : إنها ليست لي إنها لمولاي ، قال : فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت : أكلها الذئب ؟ فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول : فأين الله ؟ .

          قال : فلم يزل ابن عمر يقول : قال الراعي : فأين الله ! فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيده فاشترى منه الراعي والغنم ، فأعتق الراعي ووهب له الغنم .

          وقد كان بعض السلف يبكي عند الموت فقيل : ما يبكيك ؟ قال : أبكي على يوم ما صمته وليلة ما قمتها !

          فاغتنموا إخواني زمنكم ، وبادروا بالصحة سقمكم ، واحفظوا أمانة التكليف لمن أمنكم ، وكأنكم بالحميم وقد دفنكم ، وبالعمل في القبر قد ارتهنكم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية