الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات

          قام تميم الداري ليلة إلى الصباح بهذه الآية وكذلك الربيع بن خثيم قام بها ليلة لم يزد .

          قال الحسن : لا يجعل الله عبدا أسرع إليه كعبد أبطأ عنه .

          وقال شميط بن عجلان : الناس ثلاثة : فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا المقرب ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب وطول الغفلة ثم راجع بتوبة ، فهذا صاحب يمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل فيه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب شمال .

          إخواني : المعاصي تنكس الرأس وما مخلط كمن كاس ، ولا بان على رمل كمحكم الأساس ، إن بينهما كما بين الطهارة والأنجاس ، وعلى وجه الطائع نور طاعته وعلى وجه العاصي ظلام مخالفته ، وعند الموت يتلقى هذا بالبشارة ويقع هذا في الخسارة ، وفي القبر يفترش هذا مهاد الفلاح ويلقى ذاك على حسك القباح ، وعند الحشر هذا يركب وذاك يسحب ، ثم يقال للعصاة : هلا ذكرتم وللطائعين : سلام عليكم بما صبرتم ، كم بين خجل يذل وبين طائع يدل ، إياكم إياكم والذنوب ، احذروا عواقب العيوب ، لقد ورطت الذنوب أربابها أي إيراط ، وأسعطت أصحابها أي إسعاط ، وأبعدتهم عن أغراضهم أشواطا بعد أشواط ، وضربت عليهم سرادقا من الندم بعد فسطاط ، هذا جنى الجناية فأين التقي المحتاط ، تنبهوا لهذا يا أصحاب اللهم الشماط ، تيقظوا فهذا الموت بكم قد أحاط ، إياكم والزلل فكم من دم قد أشاط ، آذيتم أنفسكم بالذنوب فمهلا كم إفراط ، هذا العدو مراصد فعليكم بالرباط ، هذا الفتور وإنما مهر الجد النشاط ، سار الصالحون وقد سلكتم غير الصراط ، ما الذي شغلكم عن أهل المحبة ؟ جمع الحبة والقيراط ؟ كانوا يصومون وأنتم مفطرون ، ويقومون وأنتم نائمون ، ويبكون خوفا وأنتم تضحكون .

          روي عن هشام ، قال : بلغني أن مناديا ينادي من أول الليل : أين العابدون ، فيقوم ناس فيصلون ثم ينادي في وسط الليل : أين الفائزون فيقوم ناس فيصلون ، ثم ينادي في السحر : أين المستغفرون فيقوم ناس فيصلون ، فإذا أصبح قال : أين الغافلون .

          [ ص: 449 ] يا من إذا صلى خفف وإذا كال طفف ، وإذا دعي تخلف ، وإذا قيل له تب سوف ، ما يؤثر عنده قول من حذر وخوف ، ثم يطمع في لحاق الصالحين فما أنصف ، جد القوم وأنت قاعد ، وقربوا وأنت متباعد ، كم بين راغب وزاهد ، كم بين ساهر وراقد ، شغلهم حب مولاهم عن لذات دنياهم ، اسمع حديثهم إن كنت ما تراهم ، خوفهم الشديد قد أزعج وأقلق ، وحذرهم العظيم قد أتلف وأحرق ، وحادي جدهم مجد ما يترفق ، كلما رأى طول الطريق نص وأعنق ، وكيف يحسن الفتور وأوقات السلامة تسرق ، دموعهم في أنهار الخدود تجري وتتدفق ، يكاد حزينهم لكثرة الذنوب يشرق ، يشتاقون إلى الحبيب والحبيب إليهم أشوق ، يا حسنهم في الدجى ونورهم قد أشرق ، والحياء فائض والرأس قد أطرق والحنين والأنين قد أخرسا الحمام المطوق ، والأسير يبكي ويشكو ويرجو أن يعتق ، فإذا جاء النهار دخلوا سورا من التقى بعد خندق ، تعرفهم بسيماهم وللصدق رونق ، اسلك طريقهم وسل معينهم توفق ، احذر من الهوى فالهوى عدو أزرق ، يا من كلما أتهم ناصحه أنجد ، وكلما غرب شرق ، قد بقي القليل وهذا الرهن يغلق .


          أستغفر الله الذي بقضائه مطر السحاب وأخصب الأب     تبا لقوم أذهبوا أوقاتهم
          لعبا وأشهد أنهم تبوا     وصبوا إلى الدنيا فكلهم بها
          كلف يغر بحبها صب     شنوا الحروب على حطام زائل
          وعلى فساد غرائز شبوا     رقدوا فما فقدت كرى أجفانهم
          حتى إذا حان الردى هبوا     لبوا وقد دعت الدعاة إلى الخنا
          فجميعهم خطئوا فما لبوا

          يا قليل النظر في أمره ، يا غافلا عن ذكر قبره ، أما نقل الموت واحدا واحدا ، وها هو قد أضحى نحوك قاصدا ، كم سلب ولدا وأخذ والدا ، إلى متى تصبح جاهلا وتمسي ماردا ، وتحث على النهوض وما تبرح قاعدا ، متى يذوب دمع ما يزال جامدا ، متى ينقص جهل ما يفتأ زائدا ، يا من إذا قاربه النصح أضحى متباعدا ، لقد نظرت لنفسك نظرا فاسدا ، كم أشمت بك عدوا وأفرحت حاسدا ، يا نائما عن خلاصه راقدا ، يا مريضا ما نرى له عائدا ، كم نوضح الأمثال ونضرب حديدا باردا ، أترضى هذا الحال أن يكون زادا لارتحال ، تذكر عبث اليمين والشمال إذا خابت جميع الآمال ورأيت حسرة ما جمعت من مال ، وتيقنت فراق الأيتام والأطفال ، وحملت هما خفت عنده الجبال ، وبان لك أن حديث [ ص: 450 ] المنى محال ، يا مؤثر الغي تأمل رشدك ، يا راحلا عن قليل تعرف قصدك ، أصلح بالتقى يومك قبل أن تلقى غدك ، إياك والهوى ودع متعودك :


          أصبحت عاديت للصبا رشدك     جهلا وأسلمت للهوى قودك
          حتى متى لا تفيق من سنة     ولا يداوي مفند فندك
          تعمل في صيد كل صائدة     ختلك طورا وتارة طردك
          ترمي التي إن أصاب ظاهرها     سهمك شكت بحده كبدك

          كان الحسن يقول : حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور ، واقرعوا هذه الأنفس فإنها طلعة ، وإنها تنازع إلى شر غاية ، فتبصروا وتشددوا ، فإنما هي أيام قلائل وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت ، فانتقلوا بصالح ما بحضرتكم .

          يا هذا زاحم باجتهادك المتقين ، وسر في سرب أهل اليقين ، هل القوم إلا رجال طرقوا باب التوفيق ففتح لهم ، وما نيأس لك من ذلك .


          إذا أعجبتك خصال امرئ     فكنه يكن منك ما يعجبك
          فليس على الجود والمكرمات     إذا جئتها حاجب يحجبك

          لقد رضيت لنفسك الغبينة ، وبعت الدار الشريفة بالدار المهينة ، وأعجبك مع عقلك ما يعجب الأطفال من الزينة ، أتراك ما علمت أن الدنيا صحبة سفينة ، إن ذكر الصالحون فلست فيهم ، وإن عد الأبرار فما أنت معهم ، وإن قام العباد لم تر بينهم ، ويحك أتطمع في الحصاد ولا بذر لك ، أترجو الأرباح ولا تجارة معك ، تبني بلا أساس ولا يثبت البناء ، وتحمل على عسكر الهوى بلا عزم فلا تصل إلى مراد ، ويحك دم على الحمية يزل أثر التخليط ، واستوثق من عقد العزم خوفا أن ينحل ، فإن عرض تقصير يوهن فاستدرك تعن .


          إذا ما عقدت العقد ثم تركته     ولم تثنه عقدا وهى ذلك العقد
          وما اليد لولا أختها بقوية     ولا الرجل لولا الرجل تمشي ولا تعدو
          ولا كل محتاج إلى ما يشده     فيعسف إلا والوهاء له وكد
          ترفع عن التعذير غير مذمم     إلى شرف الإعذار يخلص لك الحمد

          ويحك ضاق الوقت فمتى تتزود ، تعب الرائض وما تترك المتعود .


          عجبت للطالب الأمر البصير بما فيـ     ـه من الغي إذ يسعى له طلبا
          وللمكب على مال يثمره     وسوف يصبح منه المال منتهبا
          وللمداوي ضنى جسم عراه وقد     دعا إلى نفسه الأوجاع والوصبا
          [ ص: 451 ] فذكر النفس هولا أنت راكبه     وكربة سوف تلقى بعدها كربا
          لا تحقرن من الآثام محتقرا     كل امرئ سوف يجزى بالذي اكتسبا
          إذا أتيت المعاصي فاخش غايتها     من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا

          لتعظمن على أهل المخالفات الآفات ، ولتقطعن أفئدة المفرطين بالزفرات ، وليشتهرن الفاجر في الخلوات بالجلوات ، ولتمورن السوق يوم السوق إلى سوق المحاسبات ، ولتسيلن الدماء بعد الدموع على الوجنات ، وليتحسرن أهل المعاصي إذا لاحت درجات الجنات ، ولينادين منادي الجزاء يخبر بتفاوت العطاء ووقوع السيئات أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية