الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 290 ] المجلس الخامس والعشرون

          في قصة مريم وعيسى عليهما السلام

          الحمد لله الذي لا شأن يشغله ، ولا نسيان يذهله ، ولا قاطع لمن يصله ، ولا ناصر لمن يخذله ، جل عن مثل يطاوله ، أو ند يشاكله ، أو نظير يقابله ، أو مناظر يقاوله ، يثيب بالعمل القليل ويقبله ، ويحلم عن المعاصي فلا يعاجله ، ويدعي الكافر شريكا ويمهله ، ثم إذا بطش هلك كسرى وصواهله ، وذهب قيصر ومعاقله ، استوى على العرش وما العرش يحمله ، وينزل لا كالمتنقل تخلو منازله ، هذه جملة اعتقادنا وهذا حاصله ، من ادعى علينا التشبيه فالله يقابله ، مذهبنا مذهب أحمد ومن كان يطاوله ، وطريقنا طريق الشافعي وقد علمت فضائله ، ونرفض قول جهم وقد عرف باطله ، ونؤمل رؤية الحق ومتى خاب آمله ، لقد حنت حنة إلى ولد فسألت من لا يرد سائله ، فيا لها من مكفول ما تغني كافله ، فلما بلغت حملت بمن شرف حامله ، فعجبت من ولد لا من والد يشاكله ، فقيل هزي إليك فهزت جذعا يابسا تزاوله ، فأخرج في الحال رطبا رطبا يلتذ آكله ، فاستدلت على تكوين ولد تحمد شمائله ، فالنصارى غلت واليهود عتت فأتت به قومها تحمله .

          أحمده حمدا أديمه وأوصله ، وأصلي على رسوله محمد الذي ارتجت ليلة ولادته أعالي الإيوان وأسافله ، وعلى أبي بكر ثاني اثنين فاعرفوا من قائله ، وعلى عمر الذي صفا الإسلام بجده وعذبت مناهله ، وعلى عثمان الذي زارته الشهادة وما تعبت رواحله ، وعلى علي بحر العلوم فما يدرك ساحله ، وعلى العباس أقرب الخلق نسبا فمن يساجله .

          قال الله تعالى : واذكر في الكتاب مريم .

          الكتاب : القرآن ومريم اسم أعجمي ، وكان اسم أمها حنة ، فتمنت ولدا فلما حملت جعلت حملها محررا خادما للكنيسة ، فلما وضعتها أنثى حملتها إليهم فكفلهازكريا .

          فلما بلغت خمس عشرة سنة انتبذت أي تنحت عن أهلها مكانا شرقيا مما يلي الشرق فاتخذت من دونهم حجابا أي حاجزا يمنع من النظر ، قال ابن عباس : ضربت سترا لتطهر من الحيض وتمتشط ، وقال السدي : احتجبت بالجدار .

          فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل فتمثل لها أي تصور في صورة البشر التام [ ص: 291 ] الخلقة ، قال ابن عباس : جاءها في صورة شاب جعد قطط حين اخضر شاربه ، قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا المعنى : إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعويذي .

          قال إنما أنا رسول ربك أي فلا تخافي لأهب لك أي أرسلني ليهب لك غلاما زكيا أي طاهرا من الذنوب قالت أنى يكون لي غلام أي كيف يكون ولم يمسسني بشر تعني الزوج ولم أك بغيا والبغي الفاجرة .

          قال كذلك قال ربك هو علي هين أي يسير أن أهب لك غلاما من غير أب ولنجعله آية للناس أي دلالة على قدرتنا ورحمة منا أي لمن اتبعه وآمن به وكان أمرا مقضيا أي محكوما به مفروغا منه ، قال ابن عباس : فنفخ جبريل عليه السلام في جيب درعها فاستمر بها حملها .

          وفي مقدار حملها سبعة أقوال : أحدها : أنها حين حملت وضعت ، قاله ابن عباس ، والثاني : حملته تسع ساعات ، قاله الحسن ، والثالث : تسعة أشهر ، قاله سعيد بن جبير ، والرابع : ثلاث ساعات ، حملته في ساعة ، وصور في ساعة ووضعته في ساعة ، قاله مقاتل والخامس : ثمانية أشهر فعاش ، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر ، فكان هذا آية ، حكاه الزجاج ، والسادس : ستة أشهر ، حكاه الماوردي ، والسابع : ساعة واحدة حكاه الثعلبي .

          قال وهب : أصبحت الأصنام ليلة ولادة عيسى منكسة على رؤوسها كلما ردوها انقلبت ، فحارت الشياطين وطاف إبليس الأرض ثم جاء فقال : رأيت مولودا فلم أستطع أن أدنو إليه .

          قوله تعالى : فانتبذت به أي بالحمل مكانا قصيا أي بعيدا . قال ابن إسحاق : مشت ستة أميال فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج فأجاءها المخاض المعنى : فجاء بها ، والمخاض وجع الولادة إلى جذع النخلة وهو ساق نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا سعف قالت يا ليتني مت قبل هذا اليوم وهذا الأمر ، قالته حياء من الناس وكنت نسيا منسيا أي ليتني لم أكن شيئا .

          فناداها من تحتها وفيه قولان : أحدهما : الملك ، وكانت على نشز . والثاني : عيسى لما ولدته ، والسري : النهر الصغير ، وكانت قد حزنت لجدب مكانها وخلوه عن ماء [ ص: 292 ] أو طعام ، فقيل لها قد أجرينا لك نهرا وأطلعنا لك رطبا ، وفي ذلك آية تدل على قدرة الله عز وجل في إيجاد عيسى . وهزي إليك بجذع النخلة الباء زائدة تساقط عليك رطبا جنيا وهو الطري المجتنى فكلي من الرطب واشربي من النهر وقري عينا بولادة عيسى ، والصوم : الصمت ، وإنما أمرت بالسكوت لأنها لم يكن لها حجة عند الناس .

          وفي سنها يومئذ ثلاثة أقوال : أحدها : خمس عشرة سنة ، قاله ابن عباس ووهب ، والثاني : اثنتي عشرة سنة ، قاله زيد بن أسلم ، والثالث : ثلاث عشرة سنة قاله مقاتل .

          قال ابن عباس : فلما مضت عليه أربعون يوما وطهرت من نفاسها جاءت إلى قومها بعيسى ، فبكوا ، وكانوا صالحين ، وقالوا : يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي عظيما يا أخت هارون وفيه أربعة أقوال : أحدها : أنه أخ لها من أمها ، كان أمثل فتى في بني إسرائيل ، والثاني : أنها كانت من بني هارون أخي موسى ، والثالث : أنه رجل صالح من بني إسرائيل شبهوها به في الصلاح ، وهذه الأقوال عن ابن عباس ، والرابع : أنه رجل من فساق بني إسرائيل ، قاله وهب .

          ما كان أبوك يعنون عمران امرأ سوء أي زانيا وما كانت أمك بغيا أي زانية فأشارت إليه أي أومأت إلى عيسى أن كلموه ، وكان عيسى قد كلمها قبل قومها وقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ورسوله ، فلما أشارت أن كلموه تعجبوا وقالوا : كيف نكلم من كان في المهد صبيا وكان زائدة ، فنزع فمه من ثديها وجس وقال : إني عبد الله آتاني الكتاب قال عكرمة : قضى أن يؤتيني الكتاب ، وقال غيره : علم التوراة وهو في بطن أمه .

          وأوحى الله تعالى إليه وهو ابن ثلاث سنين وأنزل عليه الإنجيل ، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ، وكان يجتمع على بابه من المرضى خمسون ألفا فيداويهم بالدعاء ، فاتبعوه وسألوه أن يحيي لهم سام بن نوح ، فأتى قبره فناداه فانشق القبر وقام فقال : هذا عيسى ابن مريم فاتبعوه ، ثم قال : سل ربك أن يردني كما كنت ، فسأل ربه فعاد .

          وكان عيسى عليه السلام يلبس الصوف ويتخذ نعلين من لحاء الشجر شراكهما ليف ، وكانت مريم تلتقط فإذا علم بها نثر لها فتتحول إلى مكان لا تعرف فيه .

          [ ص: 293 ] وكان يقول : لباسي الصوف ، وشعاري الخوف ، وبيتي المسجد ، وطيبي الماء ، وأدمي الجوع ، ودابتي رجلاي ، وسراجي بالليل القمر ، ومصطلاي في الشتاء مشارق الشمس ، وفاكهتي وريحاني بقول الأرض ، وجلسائي المساكين .

          وكان يقول لأصحابه : أهينوا الدنيا تكرمكم الآخرة ، إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون ، ولا تبلغون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون .

          أخبرنا الحسن بن أحمد ، عن محمد بن سباع النميري ، قال : بينا عيسى ابن مريم عليه السلام يسيح في بعض بلاد الشام اشتد به المطر والرعد والبرق ، فجعل يطلب شيئا يلجأ إليه فرفعت له خيمة من بعيد فإذا فيها امرأة فحاد عنها ، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا في الكهف أسد ، فرفع يده ثم قال : إلهي جعلت لكل شيء مأوى ، ولم تجعل لي مأوى ! .

          فأجابه الجليل : مأواك عندي في مستقر رحمتي ، لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء حليتها بيدي ، ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام ، كل عام منها كعمر الدنيا ، ولآمرن مناديا ينادي : أين الزاهدون في الدنيا ، زوروا عرس الزاهد عيسى ابن مريم .

          وقال أبو علي الجلد : لقي عيسى ابن مريم عليه السلام إبليس فقال : أسألك بالحي القيوم الذي جعل عليك اللعنة ما الذي يسل جسمك ويقطع ظهرك ؟ فضرب نفسه الأرض ثم قام فقال : لولا أنك أقسمت علي بالحي القيوم ما أخبرتك ، أما الذي يقطع ظهري فصلاة الرجل في بيته ناقلة وفي الجماعة ، وأما الذي يسل جسمي فصهيل الفرس في سبيل الله ! وقال ابن عباس : دخل عيسى عليه السلام خوخة فدخل وراءه رجل من اليهود فألقي عليه شبه عيسى فقتلوه وصلبوه .

          قال علماء النقل : رفع لثلاث ساعات من النهار وألبس النور وكسي الريش وقطعت عنه لذة المطعم والمشرب فأصبح إنسيا ملكيا .

          وقال بعضهم : رفع ليلة القدر وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا ، وماتت أمه بعد رفعه بست سنين ، وكان عمرها نيفا وخمسين سنة .

          وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء بشرقي دمشق ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقاتل الناس على الإسلام ، ويقتل الدجال ويتزوج ويولد له ، ويمكث خمسا وأربعين سنة ، ثم يموت فيدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية