الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الرابع :

          في ذكر الزكاة

          الحمد لله الذي لا واضع لما رفع ، ولا رافع لما وضع ، ولا واصل لما قطع ولا مفرق لما جمع ، سبحانه من مقدر ضر ونفع ، وحكم فالكل حكمه كيف وقع ، أمرض حتى ألقى على شفا ثم شفى الوجع ، وواصل من شاء ومن شاء قطع ، جعل العصاة في خفارة الطائعين ، وفي كنف القوم وسع ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع .

          أحمده على ما أعطى ومنع ، وأشكره إذ كشف للبصائر سر الخدع ، وأشهد بأنه واحد أحكم ما صنع ، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله والكفر قد علا وارتفع ، ففرق بمجاهدته من شره ما اجتمع ، صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه أبي بكر الذي نجم نجم سعادته يوم الردة وطلع ، وعلى عمر الذي عز الإسلام به وامتنع ، وعلى عثمان المقتول ظلما وما ابتدع ، وعلى علي الذي دحض الكفر بجهاده وقمع ، وعلى عمه العباس الذي سئل به سيل السحاب فهمع . اللهم يا من إلى بابه كل راغب رجع ، اجعلنا ممن بالمواعظ انتفع ، واحفظنا من موافقة الطبع والطمع ، وانفعني بما أقول وكل من استمع .

          قال الله تبارك وتعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .

          الكنز : ما لم يؤد زكاته . أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن الليث بن سعد ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر ، قال : ما كان من مال تؤدى زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونا ، وما ليس مدفونا لا تؤدى زكاته ؛ فإنه الكنز الذي ذكره الله عز وجل في كتابه .

          وفي قوله : ولا ينفقونها قولان ، ذكرهما الزجاج : أحدهما : أن المعنى يرجع إلى الكنوز ، والثاني : إلى الفضة .

          وقال أبو عبيدة : العرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا فأخبروا عن أحدهما استغناء بذلك وتخفيفا بمعرفة السامع أن الآخر قد شاركه ودخل معه في ذلك الخبر :


          ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب

          [ ص: 599 ] قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم . أي اجعل مكان البشارة هذا .

          قوله عز وجل : يوم يحمى عليها في نار جهنم . يعني الأموال ، قال ابن مسعود : ما من رجل يكوى بكنز فيوضع دينار على دينار ، ولا درهم على درهم ، ولكن يوسع في جلده فيوضع كل دينار على حدته .

          وقال ابن عباس : هي حية تطوى على جنبيه وجبهته ، فتقول : أنا مالك الذي بخلت به .

          أخبرنا هبة الله بن محمد بسنده عن المحرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل الكعبة فقال : هم الأخسرون ورب الكعبة . قالها ثلاث مرات . قال : فأخذني غم وجعلت أتنفس ، قال : قلت هذا شر حدث في . قال : قلت : من هم فداك أبي وأمي ؟ قال : الأكثرون أموالا إلا من قال في عباد الله ، هكذا وهكذا ، وقليل ما هم ، ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلا أو بقرا لا يؤدي زكاتها إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها حتى يقضي الله بين الناس ثم تعود أولاها على أخراها " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          وبالإسناد عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءته يوم القيامة أكثر ما كانت قط ، وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بقوائمها ، ولا صاحب غنم لا يفعل بها حقها إلا جاءت أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ليس فيها جماء ولا منكس قرنها ، ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاغرا فاه ، فإذا أتاه مر منه فيناديه ربه : خذ كنزك الذي خبأته فإني عنه أغنى منك ، فإذا رأى أن لا بد له منه سلك بيده في فيه فيقضمها قضم الفحل " .

          انفرد بإخراجه مسلم .

          وفي أفراده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جبهته وجنبه وظهره كلما تردت أعيدت إليه أولاها [ ص: 600 ] أعيدت أخراها أعيدت إليه في يوم كان مقداره : خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " .

          أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول : أنا مالك ، أنا كنزك وتلا هذه الآية : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الآية .

          انفرد بإخراجه البخاري .

          فإن قيل : لم خص الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن ؟

          فجوابه من وجهين : أحدهما : أن هذه المواضع مجوفة فيصل الحر إلى أجوافها ، بخلاف اليد والرجل ، وكان أبو ذر يقول : بشر الكنازين بكي في الجباه ، وكي في الجنوب ، وكي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم . والثاني : أن الغني إذا رأى الفقير انقبض ، وإذا ضمه وإياه مجلس ازور عنه وولاه ظهره ، فكويت تلك المواضع منه . قاله أبو بكر الوراق .

          قوله تعالى : هذا ما كنزتم لأنفسكم المعنى : هذا ما ادخرتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون أي عذاب ذلك اليوم .

          واعلم أن الزكاة أحد أركان الإسلام . قال صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس " فذكر منهن الزكاة .

          وينبغي للمتيقظ أن يفهم المراد من الزكاة ، وذلك ثلاثة أشياء :

          أحدها : الابتلاء بإخراج المحبوب . والثاني : التنزه عن صفة البخل المهلك . والثالث : شكر نعمة المال ، فليتذكر إنعام الله عليه إذ هو المعطي لا المعطى .

          وعليه ألا يؤخرها إذا حال الحول لأنها حق للفقير ، ويجوز تقديمها على الحول ، ولا يجوز إعطاء العوض باعتبار القيمة . وينبغي أن ينتقي الأجود للفقير ، فإن الذي يعطيه هو الذي يلقاه يوم القيامة ، فليتخير لنفسه ما يصدق به ، وأن يقدم فقراء أهله ويتحرى بها أهل [ ص: 601 ] الدين ، ولا يبطل صدقته بالمن والأذى ، فليعط الفقير بانشراح ولطف حتى كأن الفقير هو الذي ينعم بما يأخذه ، وليستر عطاءه أهل المروءات فإنهم لا يؤثرون كشف ستر الحاجة ، فإن خطر له أن الزكاة ينبغي أن تشاع لئلا يتهم الإنسان ، ففي من لا يستحي إذا أخذها كثرة ، فليشعها عند أولئك ، وليترك أرباب الأنفة تحت ستر الله عز وجل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية