الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الثالث والثلاثون

          في فضل الصحابة رضي الله عنهم

          الحمد لله القديم الأحدي ، العظيم الصمدي ، الدائم الأبدي ، القائم السرمدي ، رفع بقدرته السماء وأجرى بحكمته الماء ، وعلم آدم الأسماء ، وأمكنه من العيش الهني ، فخالف بالأكل الصواب ، فكشف الخلاف عنه الجلباب ، فخرج وما يعرف الباب لشؤم ارتكاب المنهي ، ويستدرك سالف الفوات حتى عطفت على تلك العبرات رحمة الراحم الخفي ، فاحذر من الأفعال الخباث فإنها سبب الالتياث ، وتعلق بالمستغاث ينقذك من جهل العلماء فإنه سريع الفرج ، إذا اشتد الأمر ضيقا فرج وما جعل عليكم في الدين من حرج رفقا بالضعيف والقوي .

          من لاذ بجنابه مريضا صلح ، من عاذ ببابه سائلا فتح ، سبحانه لقد جاد وسمح وحتى على الفاجر الشقي ، ذل لجلاله من شمخ ، وقل لكماله من بذخ ، وخرج الليل بقدرته وانسلخ عن النهار النقي ، تفرد بالإنعام والجود ، وأذل الأعناق له بالسجود ، وتنزه عن مشابهة كل موجود بالوجود الأزلي ، سعد من بطاعته يلوذ ، ونجا من بحريمه يعوذ ، وأمره في خلقه نفوذ ، فما حيلة المرمى ، بعلم خفي الخافي من السر ، ويسمع أنين المضطر في الضر ، ويرى دبيب الذر في البر تحت أخفاف المطي ، لا يعزب عن سمعه خفي الركز ، ولا يمنع أمره حصين الحرز ، تعالى أن يشابه المخلوق في العجز بالعز الأبدي ، يوصف بالحياة والكلام والسمع والنفس ، وجلت صفاته عن وهم الحدس إنما هو وحي أنزله روح القدس على قلب النبي ، يرزق النمل في الرمل والفرخ في العش ، ويبعث المزن بالوبل والودق والطش ، خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، لا كاستواء البشري .

          يحاسب العباد يوم القصاص ، ويسأل عن خفي الرياء ودقيق الإخلاص ، ويتجلى في الجنة لأهل الخلاص فيلحقه الرائي ويا عزة المرئي ، بيده ملك الطول والعرض ، وإذا أجمع الخلائق ليوم العرض ، حار من في السماوات ومن في الأرض ، وانقضت مشيدات المبني .

          [ ص: 383 ] موصوف بالرضا ويحذر منه السخط ، معروف بالكرم فإياك والقنط ، شرط عليكم التقوى فقم بالذي شرط ، فإنه لا ينسى أجر التقي . لا يخفى عليه خائنة اللحظ ، ولا يحتجب عن سمعه خفي اللفظ ، وقد نزجرك عن الخطايا بأبلغ الوعظ ، وننهاك بالعقلي والحسي ، تنزه عن العنصر والمزاج والطبع ، وتقدس عن الجوارح وإن وصف بالبصر والسمع ، ولا تعرف صفاته إلا بالنقل والسمع ، لا برأي البدعي .

          قضى بالقضاء قبل خلق الخلق وفرغ ، وأنزل القرآن والزمن النزر قد فرغ ، لينذركم به ومن بلغ باللسان العربي ، وهو المكتوب المسموع المعروف ، المحفوظ المتلو المألوف ، والمتكلم به بالكلام موصوف ، تنزه عن الجرس والعي . مسطور في الصحائف والأوراق ، منزل من المليك الخلاق ، أنزله من فوق السبع الطباق على الرسول الأمي ، كتاب معظم مبارك لا يداني في لفظه ، ولا يشارك بكشف نوره ، كلما تدارك عن بصر البصيرة عمي العمي ، نزل بأمر الملك الجليل على النبي النبيه النبيل ، وسهلت تلاوته أي تسهيل حتى على الصبي ، به فاقت هذه الأمة على الأمم ، وبه نشر لهذا العالم العلم ، ومن حكمته هطلت على القلوب ديم فاهتزت وربت بالري ، فركب فيها أغراس الإيمان ، وأورقت أغصان الإيقان ، وانحلت معوصات الإشكال بالبيان ، حتى وصل إلى فهم الأعجمي .

          منع حافظيه اللعب واللهو ، ودفع عن متدبريه البطالة والسهو ، فمن استغنى به عن غيره فهو في العيش الرضي ، إنه لأجل ما تحركت به الأفواه ؛ كيف لا والمتكلم به هو الله ، يكون مخلوقا وقد اتصف به الإله ، ويل للمعتزلي .

          لا يخلق عن كثرة التكرار ولا يبلى ؛ لا يقدر الخلق على مثله حاشا وكلا ، تعرف الملائكة كل بيت فيه يتلى كمعرفتهم بالكوكب الدري .

          فاسلك في اعتقادك طريق السلف المرضي ، وخذ بملازمة السنن بالسنن السوي ، هذا مذهب المسلم وعقد الحنبلي .

          أحمده على الفهم القوي ، وأستعيذه من الشيطان الرجيم الغوي ، وأشهد له بالتوحيد شهادة زاد صفاؤها على الوصف العرفي ، وأن محمدا عبده ورسوله استخرجه من العنصر الزكي فبشر بولادته انشقاق الإيوان الكسروي ، وجمله بنور الهيئة قبل الزي ، ونصره بالرعب قبل المشرفي ، وأرسله بالدليل الجلي والحكم الشرعي ، وزهده في مجالسة الغني الغبي ، ورغبه في صحبة الفقير من الدنيا الخلي ، وعاتبه في صهيب الرومي وبلال الحبشي والفقير الضعيف القصي ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي .

          [ ص: 384 ] وصلى الله على محمد القرشي الهاشمي المكي الزمزمي الأبطحي المدني التهامي ، وعلى صاحبه المخصوص بفضيلة ثاني اثنين وهو في القبر مضاجعه كهاتين ، كيف لا وقد كانا رفيقين في الزمان الجاهلي ، وعلى الذي كانت الشياطين تفرق من ظله وتتفرق هيبة من أجله ، إذا سمعوا خفق نعله هربوا من الأحوذي وعلى مصابر البلاء من أيدي الأعداء الذي يستحي منه ملائكة السماء . سلام الله على ذاك الحيي ، وعلي الذي ملئ علما وخوفا ، وعاهد على ترك الدنيا فأوفى ، ونحن والله نحبه أوفى من حب الرافضي ، وعلى جميع أصحابه وأزواجه وأتباعه على منهاجه ما قام مكلف بالفرض الرسمي ، واستقام نبت في الأرض بالوسمي . وسلم .

          قال الله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار قال ابن عباس : شهد له بالرسالة . وقوله : والذين معه يعني أصحابه أشداء وهو جمع شديد . والرحماء جمع رحيم . والمعنى أنهم يغلظون على الكفار ويتوادون بينهم تراهم ركعا سجدا يصف كثرة صلاتهم يبتغون فضلا من الله وهو الجنة ورضوانا وهو رضا الله عنهم .

          سيماهم أي علامتهم في وجوههم وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة ؟ فيه قولان :
          أحدهما : في الدنيا . ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها السمت الحسن رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال مجاهد : هو الخشوع والوقار والتواضع . والثاني : أنه ندى الطهور وثرى الأرض . قاله سعيد بن جبير . وقال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب . والثالث : أنه السهوم وهو اصفرار الوجه من أثر السهر . وهو مذهب الحسن وعكرمة .

          القول الثاني : أنها في الآخرة . ثم فيها قولان : أحدهما : أن موضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضا يوم القيامة . قاله عطية العوفي . وروي عن ابن عباس أنه قال : صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة . والثاني : أنهم يبعثون غرا محجلين من أثر الوضوء . قاله الزجاج ويدل عليه ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء ؛ فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية