الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الرابع والثلاثون

          في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم

          الحمد لله خالق الجامد والحساس ، ومبدع الأنواع والأجناس ، القوي في سلطانه الشديد الباس ، المنزه عن السنة والنعاس ، المخرج رطب الثمار من يابس الأغراس ، نفذ قضاؤه فلم يمتنع بأحراس ، وقهر عزه كل صعب المراس لا يعزب عن سمعه حركات الأضراس ، ولا دبيب ذر بالليل ، في مطاوي قرطاس ، نفذت مشيئته فكم مجتهد عاد بالياس ، يفعل ما يريد لا بمقتضى تدبير الخلق والقياس ، قدم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عن كل نبي دبر وساس ، فسبحان من أجزل له العطا ، وجعله خير نبي حارب وسطا ، وقال لأمته : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس .

          أحمده حمدا يدوم بدوام اللحظات والأنفاس ، وأصلي على رسوله محمد الذي شرعه مستقر ثابت الأساس ، وعلى صاحبه أبي بكر الثابت العزم وقد ارتد الناس ، وعلى عمر قاهر الجبابرة الأشواس ، وعلى عثمان الصابر يوم الشهادة على مرير الكاس ، وعلى علي أهدى الجماعة إلى نص أو قياس ، وعلى عمه وصنو أبيه العباس .

          قال الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الكاف في قوله : وكذلك كاف التشبيه ، فالكلام معطوف على قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا والتقدير : فكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم : كذلك جعلناكم أمة وسطا أي عدولا خيارا . ومثله : قال أوسطهم أي خيرهم وأعدلهم .


          هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم



          وأصل هذا أن خير الأشياء أوساطها وأن الغلو والتقصير مذمومان.

          لتكونوا شهداء على الناس وفيه قولان : أحدهما لتكونوا شهداء يوم القيامة للأنبياء على أممهم بأنهم قد بلغوا .

          أخبرنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن المذهب ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له : هل [ ص: 396 ] بلغت ؟ فيقول : نعم . فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا . قال : الوسط : العدل . قال : فتدعون فتشهدون له بالبلاغ . قال : « ثم أشهد عليكم » .

          قال أحمد : وحدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا . فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم . فيقال له : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيدعى محمد وأمته . فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا . قال : فذلك قوله عز وجل : وكذلك جعلناكم أمة وسطا قال : يقول : عدلا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .

          القول الثاني : لتكونوا شهداء لمحمد على الأمم اليهود والنصارى والمجوس ، ويكون الرسول شهيدا عليكم بأعمالكم . قاله مجاهد .

          واعلم أنه كما فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء فضلت أمتنا على سائر الأمم .

          أخبرنا هبة الله بن محمد ، أنبأنا الحسين بن علي ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه ، حدثنا أبو هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، فاليوم لنا ولليهود غدا وللنصارى بعد غد " .

          قال أحمد : وحدثنا يحيى ، عن شعبة ، حدثنا أبو إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء نحوا من أربعين فقال : أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة . قلنا نعم . قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم . قال : فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا [ ص: 397 ] نفس مسلمة ، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود أو السوداء في جلد ثور أحمر " .

          قال أحمد : وحدثنا إسماعيل ، أنبأنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط ؟ ألا فعملت اليهود . ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ ألا فعملت النصارى . ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين ؟ ألا فأنتم الذين عملتم . فغضب اليهود والنصارى فقالوا : نحن كنا أكثر عملا وأقل عطاء . قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : إنما هو فضلي أوتيه من أشاء " .

          واعلم أن فضيلة هذه الأمة على الأمم المتقدمة وإن كان ذلك باختيار الحق لها وتقديمه إياها إلا أنه جعل لذلك سببا ، كما جعل سبب سجود الملائكة لآدم علمه بما جهلوا ، فكذلك جعل لتقديم هذه الأمة سببا هو الفطنة والفهم واليقين وتسليم النفوس .

          واعتبر حالهم بمن قبلهم : فإن قوم موسى رأوا قدرة الخالق في شق البحر ثم قالوا : اجعل لنا إلها . ثم مال كثير منهم إلى عبادة العجل . وعرضت لهم غزاة فقالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا ولم يقبلوا التوراة حتى نتق عليهم الجبل . ولما اختار سبعين منهم فوقع في نفوسهم ما أوجب تزلزل الجبل بهم .

          ولهذا لما صعد نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حراء في جماعة من أصحابه تزلزل الجبل فقال : " اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " . فكأنه أشار إلى أنه ليس عليك من يشك كقوم موسى .

          ومن تأمل حال بني إسرائيل رآهم قد أمروا بقول حطة فقالوا : " حنطة " وقيل لهم : وادخلوا الباب سجدا فدخلوا زحفا . وقالوا عن نبيهم : هو آدر . ومن مذهبهم التشبيه والتجسيم وهذا من أعظم التغفيل ، لأن الجسم مؤلف ، ولا بد للمؤلف من مؤلف .

          ومن غفلة النصارى : اعتقادهم أن الله تعالى جوهر والجوهر يتماثل ، ولا مثل للخالق . ثم يقولون : عيسى ابنه وقد علم أن الابن بعض ، والخالق سبحانه لا يتجزأ فلا [ ص: 398 ] يتبعض . ثم قد علموا أن عيسى لا يقوم إلا بالطعام ، والإله من قامت به الأشياء لا من قام بها .

          وقد عرف يقين أمتنا وبذلهم أنفسهم في الحروب وطاعة الرسول ، وحفظهم للقرآن ، وأولئك كانوا لا يحفظون كتابهم ، فلهذا فضلوا .

          فهم أول أمة يدخلون الجنة . وقد قال عليه السلام : " أهل الجنة مائة وعشرون صفا ، أمتي منهم ثمانون صفا " .

          أخبرنا ابن الحصين ، أنبأنا ابن المذهب ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا يزيد ، حدثنا بهز بن حكيم بن معاوية ، عن أبيه عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى " .

          فالحمد لله الذي أعطانا بجوده وفضله ما لسنا من أهله .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية