الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          سجع

          يا من أغصان إخلاصه ذاوية ، وصحيفته من الطاعات خاوية ، لكنها لكبار الذنوب حاوية ، يا من همته أن يملأ الحاوية ، كم بينك وبين البطون الطاوية ، كم بين طائفة الهدى والغاوية ، اعلم أن أعضاءك في التراب ثاوية ، لعلها تتفرد بالجد في زاوية ، قبل أن تعجز عند الموت القوة المقاوية ، وترى عنق الميزان لقلة الخير لاوية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية .

          ذكر الحساب أطار عن أعين المتقين النعاس ، ولتثقيل الميزان فرغت أكياس الكياس .

          قالت مولاة أبي أمامة : كان أبو أمامة لا يرد سائلا ولو بتمرة ، فأتاه سائل ذات يوم [ ص: 249 ] وليس عنده إلا ثلاثة دنانير فأعطاه دينارا ، ثم أتاه سائل فأعطاه دينارا ، ثم أتاه سائل فأعطاه دينارا ، قالت : فغضبت وقلت : لم تترك لنا شيئا ؟ فوضع رأسه للقائلة فلما نودي للظهر أيقظته فتوضأ ثم راح إلى المسجد . قالت فرققت عليه وكان صائما ، فاقترضت ما جعلت له عشاء وأسرجت له سراجا ، وجئت إلى فراشه لأمهده له ، فإذا صرة ذهب فعددتها فإذا هي ثلاثمائة دينار ، فقلت رحمك الله ! ما صنع الذي صنع إلا وقد وثق بما عنده . فأقبل بعد العشاء فلما رأى المائدة والسراج تبسم وقال : هذا خير من غيره . فقمت على رأسه حتى تعشى ، فقلت : رحمك الله ! خلفت هذه النفقة في سبيل الله مضيعة ولم تخبرني فأدفعها ؟ قال : وأي نفقة ؟ ما خلفت شيئا . قالت : فرفعت الفراش ، فلما رآه فرح واشتد تعجبه . قالت : فقمت فقطت زناري وأسلمت على يده . وكانت تعلم النساء القرآن والفرائض والسنن . انظروا ثمرة المعاملات : هذا نقد فكيف الوعد .

          أخبرنا ابن ناصر وعبد الله بن علي ، قالا أنبأنا طراد ، قالا أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا ابن صفوان ، حدثنا أبو بكر ، عن محمد بن الحسين ، قال حدثني أحمد بن سهيل ، قال : حدثني خالد بن الغور ، قال : كان حيوة بن شريح من البكائين ، وكان ضيق الحال جدا ، فجلست إليه يوما وهو وحده فقلت له : لو دعوت الله يوسع عليك ؟ فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض فقال : اللهم اجعلها ذهبا . فإذا هي والله تبرة في كفه ما رأيت أحسن منها . فرمى بها إلي فقلت : ما أصنع بها قال استنفقها . فهبته والله أن أرده .

          أخبرنا ابن ناصر ، أنبأنا الحسين بن أحمد ، أنبأنا هلال بن محمد ، أنبأنا جعفر الخلدي ، حدثنا ابن مسروق ، حدثنا محمد بن الحسين ، عن محمد بن عبد العزيز بن سليمان ، قال : سمعت دهثما وكان من العابدين يقول : اليوم الذي لا آتي فيه عبد العزيز كنت مغبونا . فأبطأت عليه يوما أتيته فقال : ما الذي أبطأ بك ؟ قلت : خير . قال : على أي حال . قلت : شغلنا العيال ، كنت ألتمس لهم شيئا . قال : فوجدته ؟ قلت : لا . قال : فهلم فلندع . فدعا وأمنت ودعوت وأمن . ثم نهضنا لنقوم فإذا والله الدراهم والدنانير تتناثر في حجورنا . فقال : دونكها . ومضى .

          ما خسر معنا معامل ، ولا قاطعنا مواصل .

          قوله تعالى : وما أدراك ما هيه يعني الهاوية نار حامية أي حارة قد انتهى حرها .

          [ ص: 250 ] كان عطاء السلمي إذا عوتب في كثرة بكائه يقول : إني إذا ذكرت أهل النار مثلت نفسي بينهم ، فكيف بنفس تغل وتسحب أن لا تبكي .

          رحم الله أعظما نصبت في الطاعة وانتصبت ، جن عليها الليل فلما تمكن وثبت ، كلما ذكرت جهنم رهبت وهربت ، وكلما تصورت ذنوبها ناحت عليها وندبت .

          كان ابن مسعود يبكي حتى أخذ بكفيه من دموعه فرمى بها . وكان عبد الله بن عمر يبكي حتى نشفت دموعه وقلصت عيناه . وبكى هشام الدستوائي حتى فسدت عينه ، وكانت مفتوحة لا يبصر بها . وكان الفضيل قد ألف البكاء فربما بكى في نومه فيسمعه أهل الدار .


          بكى الباكون للرحمن ليلا وباتوا دمعهم لا يسأمونا     بقاع الأرض من شوق إليهم
          تحن متى عليها يسجدونا

          إذا لانت القلوب للخوف ورقت ، رفعت دموعها إلى العين ورقت ، فأعتقت رقابا للخطايا ورقت ، يا قاسي القلب ابك على قسوتك ، يا ذاهل الفهم بالهوى نح على غفلتك ، يا دائم المعاصي خف غب معصيتك أما علمت أن النار أعدت لعقوبتك .


          ومجلسنا مأتم للذنوب     فابكوا فقد حان منا البكا
          ويوم القيامة ميعادنا     لكشف الستور وهتك الغطا

          جاءت امرأة في ليلة مطيرة إلى راهب وقصدت أن تفتنه ، فقالت : هذا المطر ولا مأوى لي فأوني . ففتح لها الباب فدخلت واضطجعت وجعلت تريه محاسنها ، فدعته نفسه إليها فقال لنفسه : لا حتى أنظر صبرك على النار . فأتى المصباح فوضع إصبعه فيه حتى احترقت ، ثم عاد إلى صلاته فعاودته نفسه فأتى المصباح فوضع إصبعه فيه فاحترقت ، ثم أتى صلاته فعاودته نفسه فلم يزل كذلك حتى احترقت الأصابع الخمس . فلما رأت المرأة فعله بنفسه ذلك صعقت فماتت .

          وكان الأحنف بن قيس يقدم إصبعه إلى المصباح فإذا وجد حرارة النار قال لنفسه : ما حملك على ما صنعت يوم كذا .

          قال بعض السلف : دخلت على عابد وقد أوقد نارا بين يديه وهو يعاتب نفسه وينظر إلى النار فلم يزل كذلك حتى خر ميتا .

          دخل ابن وهب إلى الحمام فسمع قارئا يقرأ : وإذ يتحاجون في النار فسقط مغشيا عليه فحمل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية