الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          قوله تعالى : الذين هم في صلاتهم خاشعون .

          أصل الخشوع : الخضوع والتواضع ، وفي المراد به ههنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه ترك الالتفات في الصلاة ، قاله علي عليه السلام ، والثاني . السكون في الصلاة ، قاله مجاهد ، والثالث : النظر إلى مواضع السجود ، قاله قتادة .

          عرفوا طريق النجاة فوقفوا على قدم الأدب في المناجاة ، فنال كل منهم ما رجاه ، فلهم عنده أعظم قدر وجاه .

          أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، أنبأنا أبو الحسين بن عبد الجبار ، أنبأنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا يزيد بن إبراهيم عن عمرو بن دينار ، قال : كان عبد الله بن الزبير يوما يصلي في الحجر مرخيا يديه ، فوافى حجر قذاف فذهب بطائفة من ثوبه ، فما انفتل من صلاته .

          قال محمد بن القاسم : وحدثنا عمرو بن بكار الباقلاوي ، قال حدثنا محمد بن إسحاق ، قال سمعت يحيى بن معين يقول : كان المعلى بن منصور الرازي يوما يصلي فوقع على رأسه كور الزنابير فما التفت وما انفتل حتى أتم صلاته فنظروا فإذا رأسه قد صار هكذا من شدة الانتفاخ .

          وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع لها [ ص: 308 ] أهل السوق فما التفت ، وكان إذا دخل منزله سكت أهل بيته ، فإذا قام يصلي تكلموا أو ضحكوا علما منهم بأن قلبه مشغول عنهم ، وكان يقول : إلهي متى ألقاك وأنت عني راض .


          إذا اشتغل اللاهون عنك بشغلهم جعلت اشتغالي فيك يا منيتي شغلي     فمن لي بأن ألقاك في ساعة الرضا
          ومن لي بأن ألقاك والكل لي من لي

          أخبرنا أبو بكر الصوفي ، أنبأنا أبو سعيد الحيري ، أنبأ أبو عبد الله باكويه الشيرازي ، حدثنا عبد الواحد بن بكر ، حدثني نصر بن أبي نصر ، عن هبة الله بن زحمد البغدادي ، قال سمعت أحمد بن سعيد الدارمي يقول : صلى أبو زرعة الرازي في مسجده عشرين سنة بعد قدومه من السفر ، فلما كان يوم من الأيام قدم عليه قوم من أصحاب الحديث ، فنظروا فإذا في محرابه كتابة فقالوا له : كيف تقول في الكتابة في المحاريب ؟ فقال : قد كرهه قوم ممن مضى ، فقالوا له : هو ذا في محرابك كتابة ، أما علمت به ؟ فقال : سبحان الله ! رجل يدخل على الله تعالى ويدري ما بين يديه !

          أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي ، قالا أنبأنا أحمد بن أحمد ، أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حدثني عفان بن الحسين الربعي ، عن رياح بن أحمد الهروي ، قال مر عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فقال : يا حاتم كيف تصلي ؟ قال حاتم : أقوم بالأمر ، وأمشي بالسكينة ، وأدخل بالنية ، وأكبر بالعظمة ، وأقرأ بالترتيل والتفكر ، وأركع بالخشوع ، وأسجد بالتواضع ، وأسلمها بالإخلاص إلى الله تعالى ، وأخاف ألا يتقبل مني ! فقال : تكلم فأنت تحسن أن تصلي .

          يا هذا : بين صلاتك وصلاتهم كما بين وقتك وأوقاتهم .

          أخبرنا علي بن عبد الله ، أنبأنا ابن النقور ، أنبأنا ابن مدرك ، حدثنا محمد بن علي الكاتب ، أنبأنا أحمد بن يحيى السوسي ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا ميسرة ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي أيوب الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجلين ليتوجهان إلى المسجد فيصليان فينصرف أحدهما وصلاته أوزن من أحد وينصرف الآخر وما تعدل صلاته مثقال ذرة " .

          أخبرنا محمد بن عمر الفقيه وأحمد بن ظفر ، قالا أخبرنا عبد الصمد بن المأمون ، [ ص: 309 ] أنبأنا الدارقطني ، حدثنا عمرو بن محمد بن شعيب ، حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثني الوليد بن عطاء ، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز ، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مصل إلا وملك عن يمينه وملك عن يساره ، فإن أتمها عرجا بها ، وإن لم يتمها ضربا بها وجهه .

          يا غائب القلب في صلاته ، يا شتيت الهم في جهاته ، يا مشغولا بآفاته عن ذكر وفاته ، يا قليل الزاد مع قرب مماته ، يا من يرحل عن الدنيا في كل لحظة مرحلة ، وكتابه قد حوى حتى مقدار خردلة ، وما ينتفع بنذير والنذر متصلة ، وما يرعوي لنصيح وكم قد عذله ، ودروعه متخرقة والسهام مرسلة ، ونور الهدى قد يرى وما رآه ولا تأمله ، وهو يأمل البقاء وقد رأى مصير من أمله ، وأجله قد دنا ولكن أمله قد شغله ، وقد انعكف على العيب بعد الشيب بصبابة ووله ، ويحضر بدنه في الصلاة فأما القلب فقد أهمله ، كن كيف شئت فبين يديك الحساب والزلزلة ، ونعم جسدك فلا بد للدود أن يأكله ، يا عجبا من فتور مؤمن بالجزاء والمسألة ، أيقين بالنجاة أم غرور وبله ، بادر ما بقي من العمر واستدرك أوله ، فبقية عمر المؤمن لا قيمة له .

          إخواني : حسن الأدب في الصلاة دليل على معرفة المخدوم ، والتفات البدن دليل على إعراض القلب ، وقد وصفت لك أحوال الخاشعين ، فهل أنت منهم أو من الغافلين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية