الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز ، أنبأنا أبو الحسين بن المهتدي ، أنبأنا القاسم بن حبابة ، حدثنا أبو علي إسماعيل بن العباس الوراق ، عن أحمد بن منصور بن زاج ، حدثني أحمد بن مصعب ، حدثني عمر بن إبراهيم بن خالد القرشي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أسيد بن صفوان ، قال : لما قبض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستعجلا مسرعا مسترجعا وهو يقول : اليوم انقطعت النبوة ، حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر فقال : رحمك الله يا أبا بكر ، كنت إلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته ، وكنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم لله يقينا ، وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل ، وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدبهم على الإسلام ، وأحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هديا وسمتا ، وأشرفهم منزلة وأرفعهم عنده وأكرمهم عليه ، فجزاك الله عن رسوله وعن الإسلام أفضل الجزاء .

          صدقت رسول الله حين كذبه الناس وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر ، سماك الله في تنزيله صديقا فقال : والذي جاء بالصدق وصدق به وآسيته حين بخلوا ، وقمت معه على المكاره حين قعدوا ، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة ، ثاني اثنين صاحبه في الغار ، والمنزل عليه السكينة ، ورفيقه في الهجرة ، وخلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتدوا .

          [ ص: 328 ] فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي ، نهضت حين وهن أصحابه ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا ، ولزمت منهاج رسوله إذ وهنوا ، كنت خليفة حقا لن تنازع ولن تضارع ، برغم المنافقين وكبت الحاسدين ، قمت بالأمر حين فشلوا فاتبعوك فهدوا ، وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم فوقا ، وأقلهم كلاما وأصدقهم منطقا وأطولهم صمتا وأبلغهم قولا وأكرمهم رأيا ، وأشجعهم نفسا ، وأشرفهم عملا ، كنت والله للدين يعسوبا ، أولا حين نفر عنه الناس وآخرا حين أقبلوا .

          كنت للمؤمنين أبا رحيما ، صاروا عليك عيالا ، حملت أثقال ما عنه ضعفوا ، ورعيت ما أهملوا وعلمت ما جهلوا ، وشمرت إذ ظلعوا ، وصبرت إذ جزعوا وأدركت أوتار ما طلبوا ، وراجعوا برأيك رشدهم فظفروا ، ونالوا برأيك ما لم يحتسبوا .

          كنت على الكافرين عذابا صبا ولهبا ، وللمؤمنين رحمة وأنسا وحصنا ، طرت والله بعنائها وفزت بحبائها ، وذهبت بفضائلها وأدركت سوابقها لم تفلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ، ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك ، فلذلك كنت كالجبال لا تحركها العواصف ولا تزيلها القواصف ، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك ، وكنت كما قال ضعيفا في بدنك قويا في أمر الله تعالى ، متواضعا في نفسك عظيما عند الله تعالى ، جليلا في أعين الناس كبيرا في أنفسهم ، لم يكن لأحدهم فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لمخلوق عندك هوادة ، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه ، القريب والبعيد عندك في ذلك سواء ، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم ، شأنك الحق والصدق والرفق ، قولك حكم وحتم ، وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم ، اعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان وظهر أمر الله فسبقت والله سبقا بعيدا وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، وفزت بالخير فوزا مبينا .

          فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك في السماء وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلمنا له أمره ، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا ، كنت للدين عزا وحرزا وكهفا .

          فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك .

          فسكت الناس حتى قضى كلامه ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا : صدقت يا ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية