الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          كنتم خير أمة أخرجت للناس


          في كنتم قولان : أحدهما : أنه بمعنى الماضي . ثم فيه خمسة أقوال : أحدها : كان وصفكم في البشارة بكم قبل وجودكم : أنكم خير الناس . قاله الحسن .

          والثاني : كنتم في سابق علم الله تعالى وحكمه . قاله ابن مقسم .

          والثالث : كنتم في اللوح المحفوظ قد كتبتم خير أمة .

          والرابع : كنتم مذ كنتم . والمعنى : ما زلتم . قاله ابن الأنباري .

          والخامس : وجدتم وخلقتم خير أمة .

          القول الثاني : أن معنى كنتم : أنتم . مثل قوله تعالى : وكان الله غفورا رحيما قاله الزجاج . وقال ابن قتيبة : وقد يأتي الفعل على بنية الماضي وهو ذاهب أو مستقبل كقوله : (كنتم) ومعناه أنتم ومثله إذ قال الله أي وإذ يقول . ومثله : أتى أمر الله ) ومثله من كان في المهد ومثله فسقناه إلى بلد ميت أي فنسوقه . قال أبو هريرة : في قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس : يجيئون بهم والأغلال في أعناقهم فيدخلون في الإسلام .

          قال عطية : يشهدون للأنبياء بالتبليغ .

          اعلم أن الخيرية تشمل أمتنا أولها وآخرها وإن كان للأول فضل السبق .

          أخبرنا الكروخي ، أنبأنا ابن عامر الأزدي وأبو بكر الغورجي ، قالا أنبأنا الجراحي ، حدثنا المحبوبي ، حدثنا الترمذي ، حدثنا قتيبة ، عن حماد ، عن ثابت البناني ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " .

          [ ص: 401 ] فإن قيل : هذا يوجب ترددا في تفضيل الصحابة ؟ فالجواب : أنه أراد تقريب آخر الأمة إلى أولها في الفضل ، كما تقول : لا أدري : أوجه هذا الثوب خير أم مؤخره ؟ وقد علم أن وجهه أفضل ، لكنك تريد تقريب مؤخره من وجهه في الجود . ذكره ابن قتيبة .

          فأما فضل الصحابة فلا يشك فيه إذ لهم صبر على الحق لا يشاركهم فيه أحد .

          كان بلال يعذب في الرمضاء ويقولون له قل : اللات والعزى . وهو يقول : أحد أحد . وكان عم الزبير يعلق الزبير ويدخن عليه بالنار ويقول : ارجع إلى الكفر فيقول : لا أرجع .

          أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الخطيب ، أنبأنا أحمد بن يوسف ، أنبأنا الحسين بن صفوان ، أخبرنا أبو بكر القرشي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا عمرو بن الشمر ، حدثني إسماعيل السدي ، قال سمعت أبا أراكة قال : صليت مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر فلما سلم انفتل عن يمينه ثم مكث كأن عليه كآبة ، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قلب يده فقال : والله لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم أحدا يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى ، قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله ، يراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم ، والله لكأن القوم باتوا غافلين . ثم نهض فما رئي بعد ذلك مفترا يضحك ، حتى ضربه ابن ملجم .

          وقد جاء من بعد الصحابة سادات برزوا في العلم والعمل .

          كان أبو مسلم الخولاني قد علق في مسجده سوطا يعذب به نفسه كلما فترت ويقول : أتظن الصحابة أن يستأثروا بمحمد دوننا ؟ والله لأزاحمنهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا رجالا . وكان عامر بن عبد قيس يصلي كل يوم ألف ركعة . وكان كهمس يختم في الشهر تسعين ختمة . وصلى سليمان التيمي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة . وكان سفيان الثوري غاية في العلم والعمل فغلبه الخوف فصار يبول الدم ، فحمل ماؤه إلى الطبيب فقال : هذا لا يشبه ماء المسلمين هذا ماء الرهبان ، هذا رجل فتت الحزن كبده . وحمل ماء سري السقطي إلى الطبيب فلما نظر إليه قال : هذا بول عاشق . قال حامله : فصعقت وغشي علي . ثم رجعت إلى سري فأخبرته فقال : قاتله الله ما أبصره .


          إذا أنا واجهت الصبا عاد بردها من حر أنفاسي عليه لهيب     وقد أكثرت في الأطباء قولهم
          وما لي إلا أن أراك طبيب     يسالم قلبي الهم فهو حليفه
          وبين جفوني والرقاد حروب



          [ ص: 402 ] كان أبو عبيدة الخواص يقول : وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه .

          وكان ولهان المجنون يقول : عدمت قلبا يحب غيرك ، وثكلت خواطر أنت بسواك .

          وقيل لبعض عقلاء المجانين : لم سميت مجنونا ؟ فقال : لما طال حبسي عنه في الدنيا سميت مجنونا لخوف فراقه .


          قلبي يحبك ما يفيـ     ـق وجفن عيني ما ينام
          قد طال فيك الليل حتـ     ى ما يقال له انصرام
          والنجم فيه راكد     والفجر يمنعه الظلام
          ليل بغير نهاية     ولكل مفتاح ختام
          في وصلك العيش الهنـ     ـي وهجرك الموت الزؤام



          قال الشبلي : جزت براهب فقلت : لمن تعبد ؟ فقال : لعيسى ، قلت : ولم ؟ قال : لأنه بقي أربعين يوما لا يأكل . فقلت : فعدها علي . فأقمت تحت صومعته أربعين يوما لم آكل فأسلم .

          أخبرنا أبو معمر الأنصاري ، أنبأنا محفوظ بن أحمد الفقيه ، قال : قال لنا أبو علي الحسن بن غالب الحيري ، سمعت أبا سعيد أحمد بن المبارك البزاز يقول : سمعت عمي محمد بن أحمد يقول : رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم في جامع الخليفة وإلى جانبه رجل مكتهل فسألت عنه فقيل : هو عيسى ابن مريم وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أليس من أمتي الرهبان ؟ أليس من أمتي الأحبار ؟ أليس من أمتي أصحاب الصوامع ؟ فدخل أبو الحسين بن سمعون فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : في أمتك مثل هذا : فسكت . فانتبهت .

          كانت قلوبهم بالحق متعلقة ، وأنوارهم على الظواهر متألقة ، كلما هدلت حمائم نوحهم هطلت غمائم شجوهم ، دموعهم في الدجى ذوارف لما بين أيديهم من المخاوف ، يغسلون بالبكاء ذنوب الصحائف ، خوفهم شديد وما فيهم مخالف ، إذا جن الليل فالقدم واقف ، يحنون إلى الحبيب حنين شارف ، الدمع مساعد والحزن مساعف ، يفزعون إلى التذكر إذا مسهم طائف ، أحوالهم عجاب وأمورهم طرائف ، كم بينهم وبين قوم موسى ؟ انقدوا يا صيارف .


          أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا     وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
          وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها     وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
          وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني     جنونا فزدني من حديثك يا سعد



          علموا أن الدنيا متاع يفنى فعبروها وما عمروها للسكنى ، واشتغلوا بدار كلما نقضت [ ص: 403 ] هذه تبنى ، طرق الوعظ أسماعهم فتلمحوا المعنى ، يأخذون أهبة الرحيل ولا يأخذون عرض هذا الأدنى ، لا كبر عندهم تراهم بين المساكين والزمنى ، لو تأملتهم رأيت ضلوعا على المحبة تحنى ، حلف صادقهم على هجر الهوى فلا والله ما استثنى ، وأقبلوا على قدم الفقر فلما رآهم أغنى ، ذكروا الجنة فاشتاقوا ولا شوق قيس إلى لبنى .

          قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اشتاقت الجنة إلى علي وعمار وسلمان " .


          إلى الزهاد في الدنيا     جنان الخلد تشتاق
          عبيد من خطاياهم     إلى الرحمن أباق
          حدتهم نحوه الرغبـ     ـة والرهبة فاشتاقوا
          وراقت لهم الدنيا     وعاقتهم فما انعاقوا
          عليهم حين تلقاهم     سكينات وإطراق
          يضجون إلى الله     ودمع العين مهراق
          توهمهم وقد مالت     بسكر القوم أحداق
          وقد قاموا فلا يهجـ     ـع من قد ذاق ما ذاقوا



          قال عبد الواحد بن زيد : هجمنا مرة على نفر من العباد في بعض السواحل فتفرقوا حين رأونا فارتقينا على تلك الجزيرة وبتنا تلك الليلة ، فما كنا نسمع عامة الليل إلا الصراخ والنفور من النار ، فلما أصبحنا طلبناهم وتبعنا آثارهم فلم نر أحدا !

          نفذت أبصار بصائرهم بنور الغيب إلى مشاهدة موصوف الوعد ، تعلقت أكف الآمال بما عاينت نواظر القلوب ، فأخمصوا البطون وغضوا الجفون ، وأهملوا الدموع على تململ ملسوع ، لو رأيتهم من خوف البين على أرجاء الرجا ، الدموع كالسيل والليل قد دجا ، ذكروا ظلم النفوس والظلام قد سجا ، فمال القلب إلى اليأس بفتوى الحجا ، فهب عليهم نسيم الظن فرجا فرجا .


          وقفنا فمن باك أجابت دموعه     ومعتصم بالصبر لم يملك الصبرا
          ومن سائر أجفانه بيمينه     وملق على أحشائه يده اليسرى
          ومن طائش لم يسعد الدمع وجده     وشر البكا ما استنفد الأدمع العزرا
          وقد ملقت خوص الركاب لبيننا     فلم نستطع ضعفا لشاردها زجرا



          التالي السابق


          الخدمات العلمية