الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 452 ] المجلس الخامس

          في ذكر ليلة النصف من شعبان

          الحمد لله الذي لا ناقض لما بناه ، ولا حافظ لما أفناه ، ولا مانع لما أعطاه ، ولا راد لما قضاه ، ولا مظهر لما أخفاه ، ولا ساتر لما أبداه ، ولا مضل لمن هداه ، ولا هادي لمن أعماه ، أنشأ الكون بقدرته وما حواه ، ورزق الصون بمنته ومنه من والاه ، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه خلق آدم بيده وسواه وأسكنه في حرم قربه وحماه ، وأمره كما شاء ونهاه ، وأجرى القضاء بموافقته هواه ، فنزعت يد التفريط ما كساه ، ثم تاب عليه فرحمه واجتباه وحاله ينذر من يسعى فيما اشتهاه ، وطرد إبليس وكانت السماوات مأواه فأصمه بمخالفته كما شاء وأعماه ، وأبعده عن بابه للعصيان وأشقاه وفي قصته نذير لمن خالفه وعصاه ، ألان الحديد لداود كما تمناه ، يأمن لابسه من يلقاه ، ثم صرع صانعه بسهم قدر ألقاه ، فلما تسور المحراب خصماه أظهر جدال التوبيخ فخصماه وظن داود أنما فتناه وذهب ذو النون مغاضبا فالتقمه الحوت وأخفاه ، فندم إذ رأت عيناه ما جنت يداه ، فلما أقله كرب ظلام تغشاه تضرع مستغيثا ينادي مولاه : إني كنت من الظالمين فنجيناه .

          تعالى ربنا سبحانه وحاشاه أن يخيب راجيه وينسى من لا ينساه ، أخذ موسى من أمه طفلا وراعاه ، وساقه إلى حجر عدوه فرباه ، وجاد عليه بنعم لا تحصى وأعطاه ، فمشى في البحر وما ابتلت قدماه ، وتبعه العدو فأدركه الغرق وواراه ، فقال آمنت فإذا جبريل يمد فاه ، وكان من غاية شرفه ومنتهاه أنه خرج يطلب نارا فناداه : يا موسى إني أنا الله وشرف أمته شرفا بينا أولاه وأني فضلتكم على العالمين بكنتم خير أمة أخذناه .

          خلق محمدا واختاره على الكل واصطفاه ، وكشف له الحجاب عند قاب قوسين فرآه ، وأوحى إليه من سره المستور ما أوحاه ، ووعده المقام المحمود وسيبلغه مناه .

          فالحمد لله الذي دلنا بنبيه عليه وعرفناه ، وأجلنا بالقرآن العظيم القديم وعلمناه ، وهدانا إلى بابه بتوفيق أودعناه ، حمدا لا ينقضي أولاه ولا ينفد أخراه .

          [ ص: 453 ] وصلى الله على محمد ما تحركت الألسن والشفاه ، وعلى آله وصحبه صلاة دائمة تدوم بدوام ملك الله ، وسلم تسليما .

          عباد الله إن ليلتكم هذه النصف ، عظيمة القدر وعجيبة الوصف ، يطلع الله فيها على العباد ، فيغفر لكل ما خلا أهل العناد .

          عن عائشة رضي الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فخرجت فإذا هو بالبقيع رافع رأسه إلى السماء فقال : كنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ قلت : يا رسول الله ، ظننت أنك أتيت بعض نسائك ، فقال : " إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب " .

          وعنها أيضا قالت : كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ، فلما كان في جوف الليل فقدته فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة ، فتلفعت بمرطي ، أما والله ما كان مرطي خزا ولا قزا ولا حريرا ولا ديباجا ولا قطنا ولا كتانا ، قيل : فمم كان ؟ قالت : كان سداه شعرا ولحمته من أوبار الإبل ، قالت : فطلبته في حجر نسائه فلم أجده فانصرفت إلى حجرتي فإذا به كالثوب الساقط على وجه الأرض ساجدا وهو يقول في سجوده : سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي ، هذه يداي وما جنيت بهما على نفسي ، يا عظيما يرتجى لكل عظيم اغفر الذنب العظيم ، أقول كما قال داود عليه السلام أعفر وجهي بالتراب لسيدي وحق له أن يسجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره ، ثم رفع رأسه صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ارزقني قلبا نقيا من الشرك لا كافرا ولا شقيا ، ثم سجد وقال : أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من معاقبتك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، قالت : ثم انصرف ودخل معي في الخميلة ولي نفس عال فقال : ما هذا النفس يا حميراء ؟ قالت : فأخبرته فطفق يمسح بيده على ركبتي ويقول : " ويح هاتين الركبتين ماذا لقيتا في هذه الليلة ليلة النصف من شعبان ، إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيغفر لعباده إلا لمشرك أو مشاحن " .

          وفي رواية أخرى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا حميراء أما تدرين ما هذه الليلة ؟ هذه ليلة عتقاء من النار بعدد شعر غنم كلب ، قلت : يا نبي الله وما بال غنم كلب ؟ [ ص: 454 ] قال : ليس في العرب قوم أكثر غنما منهم ، لا أقول فيهم ستة : مدمن خمر ولا عاق والديه ولا مصر على ربا أو زنا ولا مصارم ولا مصور ولا قتات " .

          وروي عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا لاثنين : مشاحن وقاتل نفس " .

          وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة النصف من شعبان يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن " .

          قلت : والظاهر من المشاحن أنه الذي بينه وبين أخيه المسلم عداوة ، وقد قال الأوزاعي : هو الذي في قلبه شحناء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يسح الله الخير في أربع ليال سحا : الأضحى والفطر وليلة النصف من شعبان تنسخ فيها الآجال والأرزاق ويكتب فيها الحاج ، وفي ليلة عرفة إلى الأذان " .

          وفي حديث عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمس ليال لا يرد فيهن الدعاء ، فذكر منهن ليلة النصف من شعبان .

          وروى ابن كردوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحيا ليلتي العيدين وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب " .

          وعن علي أنه قال : " إذا كان ليلة النصف من شعبان قال الله تعالى : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من مسترزق فأرزقه ؟ حتى ينفجر الفجر ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام ليلتها وصيام نهارها " .

          [ ص: 455 ] وقال حكيم بن كيسان : يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فمن طهره في تلك الليلة زكاه إلى مثلها من قابل .

          روي عن عكرمة في قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم قال : في النصف من شعبان يدبر الله أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب حاج بيت الله الحرام فلا يزيد فيهم أحدا ولا ينقص منهم أحدا .

          واعلم أن الرواية بهذا عن عكرمة مضطربة ، فتارة يروى هكذا وتارة يروى أنها ليلة القدر كباقي المفسرين ، وقد سبقت الأحاديث أن الآجال تكتب في شعبان ، فجائز أن يختص شعبان بما يتعلق بالآجال ويكون القدر العام في ليلة القدر .

          وقد رويت لهذه الليلة خمس صلوات ليس في أسانيدها شيء صحيح ، ولا فيها ما يثبت ، فلذلك سكتنا عن ذكرها ، فإن الحديث إذا لم يصح كان وجوده كالعدم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية