الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا

          الأبرار واحدهم بر وبار . وهو الصادق المطيع
          يشربون من كأس أي : من إناء فيه شراب كان مزاج الكأس كافورا . والمطلوب من الكافور برده وريحه .

          قوله تعالى : عينا قال الأخفش : المعنى : أعني عينا . وقال الزجاج : الأجود أن يكون المعنى من عين .

          قوله تعالى : يشرب بها أي منها عباد الله أي أولياؤه يفجرونها قال مجاهد : يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة .

          قوله تعالى : يوفون بالنذر فيه إضمار (أي ) كانوا يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله ويخافون يوما كان شره مستطيرا أي فاشيا منتشرا فانشقت السماوات وتناثرت [ ص: 364 ] الكواكب وكورت الشمس والقمر ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على وجه الأرض من بناء أو جبل .

          قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه أجر نفسه يسقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح ، فلما قبض الشعير طحنوا ثلثه وأصلحوا منه ما يأكلونه فلما استوى أتى مسكين فأخرجوه إليه ، ثم عملوا الثلث الثاني فلما تم أتى يتيم فأطعموه ، ثم عملوا الباقي ، فلما تم أتى أسير من المشركين فأطعموه وطووا فنزلت هذه الآيات .

          قوله تعالى : على حبه أي على حب الطعام . المعنى : وهم يشتهونه . وقال أبو سليمان الداراني : على حب الله عز وجل . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد قال سعيد بن جبير : ما تكلموا بذلك إنما علم الله تعالى من قلوبهم فأثنى عليهم .

          واليوم العبوس ، الذي تعبس فيه الوجوه ، فجعل ذلك من صفة اليوم . والقمطرير : الشديد . قال أبو عبيدة : العبوس القمطرير والقماطر والعصيب والعصبصب : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء .

          فوقاهم الله شر ذلك اليوم بطاعته في الدنيا ولقاهم نضرة أي حسنا وبياضا في الوجوه وسرورا في القلوب وجزاهم بما صبروا على طاعته جنة وحريرا وهو لباس أهل الجنة والأرائك : السرر في الحجال . والزمهرير : البرد الشديد ودانية وجزاهم دانية عليهم ظلالها أي قريبة منهم ظلال أشجارها وذللت قطوفها يتناولون منها قياما وقعودا ومضطجعين . والأكواب : الأباريق التي لا عرى لها كانت قواريرا أي تلك الأكواب قوارير ولكنها من فضة . قال ابن عباس : لو ضربت فضة الدنيا حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة .

          وقال الفراء : هذا على التشبيه ، المعنى كأنها من فضة أي لها بياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير .

          وفي قوله تعالى : قدروها تقديرا قولان : أحدهما : قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروا . قاله الحسن . قال الزجاج : جعل الإناء على قدر ما يحتاجون إليه .

          [ ص: 365 ] والثاني : قدرها السقاة والخدم على قدر ما يحتاج إليه السادة ، فلا يزيد على ريهم فيثقل الكف ولا ينقص منه فيطلب الزيادة ويسقون فيها أي في الجنة كأسا كان مزاجها زنجبيلا وهو معروف في الدنيا ، وهو عروق تسري في الأرض يؤكل رطبا ، والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر ممزوجين .


          وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر



          فشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك .

          عينا فيها أي يسقون عينا . وسلسبيل : اسم العين وهو صفة لماء كان على غاية السلامة . قال مجاهد : سلسبيلا : حديدة الجرية . وقال ابن الأنباري : السلسبيل : صفة للماء لسلسه وسهولة مدخله في الحلق ، يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل . حكى الماوردي أن عليا رضي الله عنه قال : معنى الكلام سل سبيلا إليها .

          قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون من الخلد ومنه الخلدة وهي القرط إذا رأيتهم منتشرين في الخدم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم يعني في الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا واسعا لا يريدون شيئا إلا قدروا عليه ولا يدخل عليهم ملك إلا باستئذان .

          قوله تعالى : عاليهم ثياب يعني أهل الجنة . والسندس : رقيق الديباج . والإستبرق : غليظه . والخضرة : لون بين البياض والسواد فهي أصلح للعين من غيرها من الألوان وقد ألبس القوم الأساور وسقاهم ربهم شرابا طهورا لا يحدثون منه ولا يبولون إن هذا الذي وصف من النعيم كان لكم جزاء بأعمالكم وكان سعيكم في الدنيا بطاعة الله مشكورا قال عطاء : شكرتكم عليه وأثبتكم أفضل الثواب .

          وقد ذكرنا أن هذا نزل في حق علي رضي الله عنه وأهل بيته لإيثارهم بالطعام .

          كان أبو بكر رضي الله عنه قد خطب فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انتظر بها القضاء . فذكر ذلك لعمر فقال : ردك يا أبا بكر . فخطبها عمر . فقال له مثل ما قال لأبي بكر . فقال أهل علي لعلي : اخطب فاطمة . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال : ما حاجتك ؟ فقال : ذكرت فاطمة . فقال : مرحبا وأهلا . فخرج فأخبر الناس بما قال . فقالوا : قد أعطاك الأهل والمرحب . ثم قال له : ما تصدقها ؟ قال : ما عندي ما أصدقها . قال : " فأين درعك [ ص: 366 ] الحطمية " . قال : عندي . قال : أصدقها إياها . فتزوجها فأهديت إليه ومعها خميلة ومرفقة من أدم حشوها ليف وقربة ومنخل وقدح ورحى وجرابان . ودخلت عليه وما لها فراش غير جلد كبش ينامان عليه بالليل وتعلف عليه الناضح بالنهار ، وكانت هي خادمة نفسها .

          تالله ما ضرها ذلك .

          وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء المؤمنين " .

          أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا الداودي ، حدثنا ابن أعين ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا الوليد بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          لما تبختر جمال فاطمة في جلباب كمالها ، حين شروع الشرع في وصف جلالها ، أنهض الصديق خاطبا لها في خطابه فسكت الرسول عن جوابه ، فنهض عمر نهوض الليث في غابه فلم يجبه فاشتد الجوى به ، فلما نقل علي أقدامه لخطبتها وجد الوحي قد سبقه قدامه : " إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي " فتزوجها في صفر وبنى بها في ذي الحجة ، فولدت له الحسن في نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة ، وولدت الحسين لثلاث خلون من شعبان سنة أربع .

          وفي الصحيحين من حديث البراء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا الحسن بن علي على عاتقه وهو يقول : " اللهم إني أحبه فأحبه " . وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه التزم الحسن وقال : " اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه " .

          وفي أفراد البخاري من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حق الحسن والحسين : " هما ريحانتاي " .

          [ ص: 367 ] وقد روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " .

          وكان علي بن أبي طالب يقول : الحسن أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدر إلى الرأس ، والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك .

          وفي حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعليا وفاطمة كساء ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . فقالت أم سلمة : وأنا معهم ؟ قال : إنك إلى خير .

          وكان أحمد بن حنبل إذا سئل عن علي وأهل بيته . قال : أهل بيت لا يقاس بهم أحد .


          يا بني بنت النبي المصطفى     حبكم ينفي عن المرء الظنن
          إن لله علينا مننا     حبكم شكر لهاتيك المنن
          أنتم من لم يرد معطي الهدى     غير ود الناس إياكم ثمن
          أنا عبد الحق لا عبد الهوى     لعن الله الهوى فيمن لعن



          لما وقف المسكين ببابهم آثر علي فوافقت فاطمة .


          ملك حاز العلا وأذل العدى     واستعبد الزمنا
          طبعه بالجود ممتزج     هل رأيت الماء واللبنا
          كفه تهوى السماح ولو     أنفقت من غير ظهر غنى
          خلقت للجود راحته     فأرتك العارض الهتنا
          ما يريد الواصفون له     حيرت أوصافه الفطنا
          أنطقت صم الصخور فلا     عجب أن تخرس اللسنا



          لما جاءت المديحة على الإيثار ووصف نعيم الجنة لم يذكر في ذلك الحور حفظا لقلب فاطمة ، وكيف يذكر الحور وهن مماليك مع الحرة .

          سبحان من كسا أهل البيت نورا وجعل عليهم خندقا يقي الرجس وسورا ، فإذا تلقوا يوم القيامة تلقوا حبورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .

          [ ص: 368 ] ادخرنا لكم نعيما مقيما ، ومنحنا لكم فضلا جزيلا عميما ، وجزينا من كان للفقراء رحيما ، أولستم قد أطعمتم مسكينا ويتيما ورحمتم مأسورا وكان سعيكم مشكورا .

          من مثل علي من مثل فاطمة ، كم صبرا على أمواج بلايا متلاطمة ، وآثروا الفقر ونار الجوع حاطمة ، فلهم نضارة الوجوه والأهوال للوجوه خاطمة ، يا سرعان ما انقلب حزنهم سرورا وكان سعيكم مشكورا .

          كانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه ، وكان علي أعز الخلق عليه ، وجعل الله ريحانته من الدنيا ولديه ، فإذا أحضرهم الحق غدا عنده ولديه أكرمهم إكراما عظيما موفورا ، وكان سعيكم مشكورا .

          واعجبا ! ذكر في هذه الآيات نعيم الجنات من الملبوس والمشروبات والمطعومات ، والأرائك والقصور والعيون الجاريات ، ولم يذكر النساء وهن غاية اللذات ، احتراما لفاطمة أشرف البنات ، ومن يصف فاطمة الزهراء لا يذكر حورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .

          [ ص: 369 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية