الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الثالث

          في ذكر المعراج

          الحمد لله فالق الحب والنوى ، وخالق العبد وما نوى ، المطلع على باطن الضمير وما حوى ، بمشيئته رشد من رشد وغوى من غوى ، وبإرادته فسد ما فسد واستوى ما استوى ، صرف من شاء إلى الهدى وعطف من شاء إلى الهوى ، قرب موسى نجيا وقد كان مطويا من شدة الطوى ، فمنحه فلاحا وكلمه كفاحا وهو بالواد المقدس طوى ، وعرج بمحمد إليه فرآه بعينيه ثم عاد وفراشه ما انطوى . فأخبر بقربه من ربه وحدث بما رأى وروى ، فأقسم على تصديقه من حرسه بتوفيقه عن قوى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى .

          أحمده على صرف الهم والجوى ، حمد من أناب وارعوى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما نشر وطوى ، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله وعود الهدى قد ذوى ، فسقاه ماء المجاهدة حتى ارتوى ، صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر الصديق صاحبه إن رحل أو ثوى ، وعلى الفاروق الذي وسم بجده جبين كل جبار وكوى ، وعلى ذي النورين الصابر على الشهادة ساكنا ما التوى ، وعلى علي الذي زهد في الدنيا فباعها وما احتوى ، وعلى عمه العباس الذي منع الله به الخلافة عن غير نبيه وزوى .

          قال الله عز وجل : والنجم إذا هوى .

          هذا قسم . وفي النجم خمسة أقوال :

          أحدها أنه الثريا .
          رواه العوفي عن ابن عباس . قال ابن قتيبة : والعرب تسمي الثريا وهي ستة أنجم نجما . وقال غيره : هي سبعة أنجم ، فستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم .

          والثاني : الرجوم من النجوم ، وهي ما يرمى به الشياطين . رواه عكرمة عن ابن عباس .

          والثالث : أنه القرآن نزل نجوما متفرقة . رواه عطاء عن ابن عباس . وقال مقاتل : كان ينزل نجوما ، ثلاث آيات وأربع آيات ونحو ذلك .

          والرابع : نجوم السماء كلها . روي عن مجاهد . فعلى هذا هو اسم جنس .

          [ ص: 432 ] والخامس : أنها الزهرة قاله السدي . فعلى قول من قال : النجم هو الثريا يكون هوى بمعنى غاب . ومن قال : هي الرجوم يكون هويها في رجم الشياطين ومن قال القرآن يكون هوى نزل . ومن قال نجوم السماء كلها ففيه قولان : أحدهما أن هويها حين تغيب . والثاني : أن تنتثر يوم القيامة .

          قوله تعالى : ما ضل صاحبكم هذا جواب القسم . والمعنى : ما ضل عن طريق الهدى والمراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما غوى .

          قوله وما ينطق عن الهوى أي ما يتكلم بالباطل . وقال أبو عبيدة : عن بمعنى الباء . وذلك أنهم قالوا : إنه يقول القرآن من تلقاء نفسه .

          إن هو أي ما القرآن إلا وحي من الله يوحى علمه شديد القوى أي علم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم . وكان من قوته أنه قلع قريات قوم لوط وحملها على جناحه فقلبها عليهم . وصاح بثمود فأصبحوا خامدين .

          فاستوى وهو بالأفق الأعلى فيه قولان : أحدهما فاستوى جبريل ، وهو يعني النبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى أنهما استويا بالأفق الأعلى لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم . قاله الفراء . والثاني : فاستوى جبريل وهو ، يعني جبريل ، بالأفق الأعلى على صورته الحقيقية ، لأنه كان يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبط عليه بالوحي في صورة رجل ، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراه على حقيقته فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق فيكون المعنى : فاستوى جبريل بالأفق الأعلى في صورته قاله الزجاج . والأفق الأعلى : مطلع الشمس وإنما قيل له الأعلى لأنه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء .

          قوله تعالى : ثم دنا فتدلى قال الزجاج دنا : بمعنى قرب . وتدلى : زاد في القرب ومعنى اللفظين واحد .

          وفي المشار إليه بقوله : ثم دنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الله . روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس قال : " ثم دنا الجبار رب العزة " وقد قال الخطابي : هذا من غلط شريك راوي أنس .

          قال ابن الجوزي : قلت : وإذا كان الدنو لا على ما يعقل في الأجسام كان المراد به [ ص: 433 ] القرب المذكور في قوله تعالى : " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا " فإن قيل : كيف يصح هذا وقد حصر قدر المسافة ؟ قلنا : إنه مثل بأقرب الأشياء كما قال : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد .

          والثاني : ثم دنا محمد من ربه . قاله ابن عباس .

          والثالث : أن جبريل دنا من محمد . قاله الحسن .

          والقاب : القدر . وقال ابن فارس : القاب ما بين المقبض والسية ، وهي ما عطف من طرفي القوس . وقال ابن قتيبة : قدر قوسين . وقال الكسائي : أراد بالقوسين قوسا واحدا .

          أو أدنى بل أدنى . فأوحى الله عز وجل إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى قال ابن عباس : رأى ربه عز وجل والمعنى : ما أوهمه فؤاده أنه رأى ولم ير .

          ولقد رآه نزلة أخرى قال ابن عباس : رأى محمد ربه . وبيان هذا : أنه لما تردد لأجل الصلوات رأى ربه مرة أخرى . وقال كعب : قسم الله عز وجل كلامه ورؤيته بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين .

          قوله تعالى : عند سدرة المنتهى السدرة : شجرة النبق وهي فوق السماء السابعة . وهو في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة . وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود أنها في السماء السادسة . وإنما سميت بسدرة المنتهى لأن إليها ينتهي ما يصعد به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، وإليها ينتهي علم الملائكة .

          عندها جنة المأوى قال ابن عباس : هي عن يمين العرش وهي منزل الشهداء .

          إذ يغشى السدرة ما يغشى قال ابن مسعود : غشيها فراش من ذهب ما زاغ البصر أي ما عدل بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا وما طغى أي ما جاوز ما رأى .

          [ ص: 434 ] وهذا كان في ليلة المعراج . واتفق العلماء على أن هذا المعراج كان بمكة قبل الهجرة ، واختلفوا في المدة التي كانت بينهما على أربعة أقوال : أحدها : سنة قاله ابن عباس . والثاني : ستة أشهر . قاله السدي . والثالث : ثمانية عشر شهرا . قاله الواقدي . ذكر هذه الأقوال عنهم أبو حفص بن شاهين . والرابع : ثمانية أشهر .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية