الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الحادي والثلاثون

          في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

          الحمد لله الذي أصبحت له الوجوه ذليلة عانية ، وحذرته النفوس مجدة ومتوانية ، وعظ فذم الدنيا الحقيرة الفانية ، وشوق إلى جنة قطوفها دانية ، وخوف عطاش الهوى أن يسقوا من عين آنية ، أحمده على تقويم شانيه ، وأستعينه من شر شانئ وشانية . وأحصل بتحقيق التوحيد إيمانيه ، وأصلي على رسوله محمد صلاة ممهدة لعزة بانية ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق السابق في الوفاق والاتفاق وفي الدار والغربة في الغار ، أربع للفخر بانية ، وله فضيلة التخلل والتقلل والرأفة والخلافة ، صارت ثمانية ، وعلى عمر مقيم السياسة على كل نفس جانية ، وعلى عثمان الذي اختاره الرسول بعد ابنته للثانية ، وعلى علي المنزل فيه الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية وعلى عمه العباس المستسقى بشيبته فإذا أسباب الغيث والغوث دانية .

          أخبرنا أبو القاسم الكاتب ، أنبأنا أبو علي التميمي ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان ؟ قال : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ؟ ! " .

          قال أحمد : وحدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يا رسول الله يشتكي عينيه . قال فأرسلوا إليه . فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له ، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي : [ ص: 359 ] يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم " .

          قال أحمد : وحدثنا ابن نضير ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش قال : قال علي : والله إنه لمما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لا يبغضني إلا منافق ولا يحبني إلا مؤمن .

          انفرد مسلم بإخراج هذا الحديث واتفقا على الحديثين قبله .

          اعلم أن عليا رضي الله عنه لا يزاحم في قرب نسبه وقد أقر الكل بعلمه وفضله .

          وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين فتبعه ، ولم يزل معه يكشف الكروب عن وجهه . وصعد على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى صنما .

          أخبرنا هبة الله بن محمد ، أنبأنا الحسن بن علي ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا أسباط ، حدثنا نعيم بن حكيم ، عن أبي مريم ، عن علي بن أبي طالب ، قال : انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة فقال لي : اجلس . وصعد على منكبي فذهبت لأنهض فلم أقدر ، فرأى مني ضعفا فنزل وجلس إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال : اصعد على منكبي . فصعدت على منكبه . قال : فنهض بي قال : فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء ، حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس ، فجعلت أزاوله عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه ، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقذف به . فقذفت به فكسر كما تنكسر القوارير ثم نزلت ، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس .

          وكان الخلق يحتاجون إلى علم علي حتى قال عمر رضي الله عنه آه من معضلة ليس لها أبو حسن .

          فلما ولي لم يتغير عن الزهد في الدنيا وكان أحمد بن حنبل يقول : إن عليا ما زانته الخلافة ولكن هو زانها .


          ما زانه الملك إذ حواه بل كل شيء به يزان [ ص: 360 ]     جرى ففات الملوك سبقا
          فليس قدامه عنان     نالت يداه ذرى معال
          يعجز عن مثلها العيان



          أخبرنا محمد بن أبي منصور ، أخبرنا جعفر بن أحمد ، أخبرنا الحسن بن علي ، أنبأنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا وهيب بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن قيس ، عن علي بن ربيعة ، عن علي بن أبي طالب أنه جاءه ابن النباح فقال : يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء . قال : الله أكبر . قال : فقام متوكئا على ابن النباح حتى قام على بيت المال فقال :


          هذا جناي وخياره فيه     وكل جان يده إلى فيه



          فأعطى جميع ما في بيت المال المسلمين وهو يقول : يا صفراء يا بيضاء غري غيري . حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين .

          أخبرنا محمد بن عبد الباقي ، أنبأنا الجوهري ، أنبأنا ابن حيوة ، حدثنا أحمد بن معروف ، حدثنا الحسين بن الفهم ، حدثنا محمد بن سعد ، أنبأنا الفضل بن دكين ، حدثنا الحر بن جرموز ، عن أبيه ، قال : رأيت عليا وعليه قطريتان إزار إلى نصف الساق ورداء مشمر ، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق يأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول : أوفوا الكيل والميزان .

          أخبرنا أبو بكر بن حبيب الصوفي ، أنبأنا أبو سعيد بن أبي صادق الحبيري ، حدثنا أبو عبد الله بن باكوية الشيرازي ، حدثنا عبد الله بن فهد بن إبراهيم الساجي ، حدثنا محمد بن زكريا ، حدثنا العباس بن بكار ، حدثنا عبد الواحد بن أبي عمرو الأسيدي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح قال : قال معاوية بن أبي سفيان لضرار بن حمزة : صف لي عليا فقال : أو تعفيني . قال : بل تصفه . فقال : أو تعفيني . قال : لا أعفيك . فقال : أما أن لا بد فإنه كان بعيد المدى شديد القوى ، يقول فصلا ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة ، يقلب كفه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب ، كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة له ولا نبتديه تعظمة ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه ، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين [ ص: 361 ] وكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا يا دنيا تعرضت أم بي تشوفت ؟ هيهات غري غيري ، قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير ، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق .

          قال : فذرفت دموع معاوية فما يملكها وهو ينشفها بكمه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، ثم قال معاوية : رحم الله أبا الحسن ! كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية