الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس الثالث :

          في ذكر الصلاة

          الحمد لله الذي أوضح سبيل هدايته لأرباب ولايته ، وأبهج وحرك أهل عبادته إلى معاملته وأزعج ، وأبدع بدائع قدرته في محكم صنعه وأخرج ، وأوقد نيران محبته في أفئدة أحبته وأجج ، من عرف لطفه ثنى عطفه إليه وأدلج ، ومن خاف عتبه ترك ذنبه وتحرج ، يحب الإخلاص في الأعمال ، ولا يخفى عليه البهرج ، حليم فإن غضب مكر بالعبد واستدرج ، لا يغتر بحلمه فكم عقاب في الحلم أدرج ، واعتبر بأبيك إذ فسح لنفسه في شهوة وأمرج ، وحام حولى المنهي اغترارا بالصفح وعرج ، كيف أصبح إكرامه بمرير الهوان يمزج ، وأضحى بنسج الصوف إذ عري عما ينسج ، وصار مغبر القدمين بعد فرس العز المسرج ، ولم تزل تجري دموع عينيه إلى أن تاب عليه وفرج ، لا يخفى عليه ضمير القلب ، وإن تلوى اللسان ومجمج ، ولا يغيب عن بصره في سواد الليل طرف أدعج ، يبصر جري اللبن يسري في العروق نحو المخرج ، وينزل إلى السماء الدنيا فأين الذي بالمناجاة يلهج ، فيستعرض الحوائج إلى أن يلوح الفجر ويتبلج ، وما انتقل ومن عقل رأى الحق أبلج ، هذا مذهب من القرآن القديم ، والنقل القويم مستخرج ، وهو المنهاج العظيم فلا تعرج عن المنهج .

          أحمده على ما سر وما أزعج ، وأشهد بوحدانيته بغير تلجلج ، شهادة موقن ما لجلج ، وأن محمدا عبده ورسوله الذي محاسن الشرائع في شريعته تدرج ، صلى الله عليه وعلى أبي بكر أول من أنفق من ماله وأخرج ، وعلى عمر الذي اضطر كسرى إلى الهرب وأحوج ، وعلى عثمان المظلوم وقد عذل وما عدل ولا عرج ، وعلى علي مبيد الطغاة وآخرهم المخدج ، وعلى عمه العباس الذي قرن الله نسبه بنسب الرسول وأزوج .

          أخبرنا هبة الله بن محمد ، قال : حدثنا الحسين بن علي التميمي ، أنبأنا أحمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، سمعت الأوزاعي يقول : حدثني الوليد بن هشام المعيطي ، حدثنا معدان بسنده إلى ابن أبي طلحة اليعمري ، قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أخبرني بعمل أعمله يدخلني الجنة ، أو قال : قلت بأحب الأعمال إلى الله ، فسكت ثم سألته الثانية فسكت ، ثم سألته الثالثة فقال : [ ص: 586 ] سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " عليك بكثرة السجود ، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة " ، قال معدان : ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان .

          انفرد بإخراجه مسلم .

          اعلم أن الله عز وجل عظم قدر الصلاة لأنها أوفى خدمة العبد ، والمراد من العبد التعبد ، وهي جامعة بين خضوع بدنه ونطق لسانه وحضور قلبه ، وإن الله تعالى جعل عبادة ملائكته بين سجود وركوع وذكر ، وذلك مجموع في الصلاة ، وليس لنا فعل يدخل به الكافر في حكم الإسلام ويخرج بتركه المسلم من الإسلام إلا الصلاة ، فإن عندنا أن الكافر إذا صلى حكم بإسلامه سواء صلى مع جماعة أو منفردا ، فيجبر عندنا على الإسلام . وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما كقولنا . والثانية : اشترط أن يكون في جماعة . وقال الشافعي : إذا صلى الحربي في دار الإسلام حكم بإسلامه .

          وأما تارك الصلاة فلا يختلف مذهبنا عن مذهب أحمد رضي الله عنه أنه يقتل حدا أو كفرا . فيه روايتان . إحداهما : يقتل لكفره ، وهو قول عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس وجماعة ، وجابر ، والشعبي ، والأوزاعي رضي الله عنهم . وقد دل على هذا ما أخرجه مسلم في أفراده من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بين العبد وبين الكفر ترك صلاة " .

          والرواية الثانية : يقتل حدا لا أنه يكفر . وهو قول مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : يحبس ولا يستتاب ولا يقتل .

          واعلم أن الشرع عظم أمر الصلاة وضرب الأمثال بفضلها .

          أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم ، أنبأنا أبو عامر الأزدي ، وأبو بكر الغورجي ، قالا : أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا الترمذي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث عن أبي الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا : لا . قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          [ ص: 587 ] وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " .

          وفي أفراده من حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة ، وذلك الدهر كله " .

          أخبرنا سعيد بن أحمد بسنده إلى مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن فضل أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " .

          وقد فضل الشرع تقديم الصلاة في أول الوقت .

          ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : " الصلاة على وقتها " .

          وفضلت الصلاة في الجماعة .

          ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة الجماعة تفضل على الصلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " .

          وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صلى أربعين يوما في جماعة لم تفته ركعة واحدة كتب الله له برائتين : براءة من النار ، وبراءة من النفاق " .

          أخبرنا محمد بن ناصر بسنده قال البغوي سمعت عبد الله بن عمر القواريري يقول : لم تكن تفوتني صلاة العتمة في جماعة ، فنزل بي ضيف فشغلت به ، فخرجت أطلب الصلاة في قبائل البصرة فإذا الناس قد صلوا وخلت القبائل ، فقلت في نفسي روي عن [ ص: 588 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة " . وروي " سبعا وعشرين " . فانقلبت إلى منزلي فصليت العتمة سبعا وعشرين مرة ، ثم رقدت فرأيتني مع قوم راكبي أفراس وأنا راكب فرسا كأفراسهم ، ونحن نتجارى فالتفت إلي أحدهم فقال : لا تجهد فرسك بلحاقنا ، فقلت : فلم ذاك ؟ قال : إنا صلينا العتمة في جماعة .

          وورد الثواب لمنتظر الصلاة .

          فروي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه إلا انتظارها " .

          وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه لا يمنعه إلا انتظارها " .

          وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فعقب من عقب ، ورجع من رجع ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسر ثيابه عن ركبتيه فقال : " أبشروا يا معشر المسلمين ، فهذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول : " هؤلاء عبادي قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى " .

          وقد عظم الصف الأول فروي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو يعلم الناس ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا " .

          وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو يعلم الناس ما في الصف المقدم لكانت قرعة " .

          وقد أمر المصلي بخفض رأسه استعمالا لأدب الخدمة ، فروى مسلم في أفراده من حديث جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم " .

          وأمر المصلي بالتثبت في الركوع والسجود ، حدثنا الكروخي بسنده عن عمير عن أبي [ ص: 589 ] معمر عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل يعني صلبه في الركوع والسجود " .

          وفي حديث ابن شيبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا ينظر الله تعالى إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود " .

          واعلم أن المقصود بالصلاة إنما هو تعظيم المعبود ، وتعظيمه لا يكون إلا بحضور القلب في الخدمة . وقد كان في السلف من يتغير إذا حضرت الصلاة ويقول : أترون بين يدي من أريد أن أقف ؟ !

          وأنت تعلم أن من حضر قلبه في تعظيم سلطانه فحضر بين يديه من يعرف من إلى جانبه امتلأ بهيبة المعظم ، فإذا أردت استجلاب حضور قلبك الغائب ففرغه من الشواغل مهما استطعت .

          وقد كان أرباب التفكر من السلف يشاهدون في كل شيء عبرة ، فيذكرون بالأذان نداء العرض ، وبطهارة البدن تطهير القلب ، وبستر العورة طلب ستر القبائح من عيوب الباطن ، وباستقبال القبلة صرف القلب إلى المقلب ، فمن لم تكن صلاته هكذا فقلبه غافل .

          يا هذا إذا صليت والقلب غائب وجوده فالصلاة كالعدم ، وهو بالروم مقيم وله بالشام قلب ، يا ذاهل القلب في الصلاة حاضر الذهن في الهوى ، جسده في المحراب وقلبه في بلاد الغفلة .

          جاء مملوك إلى سيده فقال : ضاعت مخلاة الفرس ، فقام السيد يصلي ، فلما فرغ من الصلاة قال : هي في موضع كذا وكذا : فقال الغلام : يا سيدي أعد الصلاة فإنك كنت تفتش على المخلاة !

          قال الحسن : يابن آدم إذا هانت عليك صلاتك فما الذي يعز عليك ؟

          ولما كان المطلوب حضور القلب جاء الوعد بالثواب الجزيل عليه . أخبرنا ابن الحصين بسنده عن زيد بن أسلم عن زيد بن خالد الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى سجدتين لا يسهو فيهما غفر الله له ما تقدم من ذنبه " .

          [ ص: 590 ] وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من توضأ فأسبغ الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت : حفظك الله كما حفظتني . ثم يصعد بها إلى السماء ولها ضوء ونور فتفتح لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى الله عز وجل فتشفع لصاحبها . فإذا لم يتم ركوعها ولا سجودها ولا القراءة فيها قالت : ضيعك الله كما ضيعتني . ثم أصعدت إلى السماء وعليها ظلمة فأغلقت دونها أبواب السماء فلفت كما يلف الثوب الخلق ، فيضرب بها وجه صاحبها " .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية