الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى

          أيحسب الإنسان أن يترك سدى


          عباد الله : من استحضر قلبه أخبره أنه مسئول عن فعله ، وأمره بالتزود ليوم رحيله ومن وافق الهوى هوى إلى محل الإضاعة وأصبح من الخاسرين .

          قال بعض المعتبرين : لما خلوت بالعقل في بيت الفكر علمت أني مخلوق للتكليف معاقب على التحريف ، لست بمهمل فأسهو ، ولا بمتروك فألهو ، يحصى علي قليل العمل وكثيره ، ويكر علي الزمان فيبين لي تأثيره . ورأيت الليل والنهار يقوداني إلى قبري ويفنيان في سيرهما عمري ، ويرياني من العبر ما يصلح به طريق الهدى ، فيبين سلب الكبير والصغير ، والرفيق والقرين ، فعلمت أن الهلاك آخر السلامة ، وأن عاقبة التفريط الندامة ، وأن وهن البدن أبين دليل على الموت وأقوى علامة ، وعرفت بدليل السمع الجزاء يوم القيامة .

          فلما تيقنت أني مكلف محاسب ومحفوظ علي عملي مراقب ، مثاب على الفعل ومعاقب ، مأخوذ بالتفريط ومطالب ، هممت أن أنهض نهضة عازم صدوق إلى أداء التكليف وقضاء الحقوق ، فقيدتني نفسي بقيود الهوى وأفسدت من حالي ما استقام واستوى .

          فبقيت أتفكر فيما جرى وأمسح عيني من سنة الكرى وأقول : ماذا منعني من مقصودي ، وأي شغل شغلني عن معبودي ؟ وما لي أقصر في سيري وكيف سبقني إلى الفضائل غيري ؟ فتعجبت مما نابني وحزنت لما أصابني ، ولم أزل أنظر في الموانع حتى فهمتها وأتدبر طريق الهدى حتى علمتها .

          وذلك : أن الله تعالى جبل النفس على حب الشهوة ، وجعلها في حبس الغفلة ، وخلق لها من رائق مقصودها ما يشغلها وجوده عن وجودها ، فهي تميل إلى مشتهاها وإن أدى إلى المهالك ، لما وضع في طبعها من حب ذلك ، وتنهمك على تحصيل غرضها وإن أعقبها طول مرضها ، فينسيها عاجل ما يسر آجل ما يضر .

          فلما وضعها الحق على هذا وألفها ، خاطبها بمخالفة هواها وكلفها ، وبين لها طريق [ ص: 236 ] الهدى وعرفها ، ولطف بها في أحوالها وتألفها ، وذكرها من النعم ما سلفها ، وأقامها على محجة التعليم ووقفها ، وحذرها من الزلل وخوفها ، وضمن لها أنها إن جاهدت أسعفها ، وإن تركت أغراضها أخلفها ، وما وعدها وعدا قط فأخلفها وأوضح لها عيوب العاجلة وكشفها ، ورغبها في لذة جنة وصفها ، فذكر لها منزلها وغرفها وأنهارها وطرفها ، وحذرها جهنم وأسفها وغيظها على العصاة ولهفها ، وأعلمها أن لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ولقد أنصفها .

          فعذلتها وقرعتها وأوعدتها وأسمعتها ، فلم ترتدع عن هواها ولم تنزع عما آذاها ، ورأت مصارع القرناء وما كفاها ، ولم تأنف من ذنوبها وذل المعاصي قد علاها ، وكأن الخطاب الذي أتى ممن سواها إلى سواها .

          فعلمت حينئذ أنها تحتاج إلى من يحاسبها وتفتقر إلى من يطالبها ، ولا تستغني عن موبخ يعاتبها ، ولا بد من رائض إن ونت يعاقبها .

          فالعجب ممن عرف نفسه كيف أهملها ، والله لقد ضرها وقتلها .

          أخبرنا محمد بن الملك ، أنبأنا أحمد بن الحسين بن خيرون ، أنبأنا أحمد بن عبد الله المحاملي ، أنبأنا أبو بكر بن عبدويه ، حدثنا الحسين بن داود البلخي ، حدثنا شقيق بن إبراهيم ، حدثني أبو هاشم الأيلي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ابن آدم لا تزول قدماك يوم القيامة من بين يدي الله عز وجل حتى تسأل عن أربع : عمرك فيما أفنيته ، وجسدك فيما أبليته ، ومالك من أين اكتسبته وأين أنفقته " .

          أخبرنا ابن أبي منصور ، أنبأنا علي بن محمد العلاف ، أنبأنا أبو الحسين الخمامي ، أنبأنا جعفر بن محمد الخواص ، حدثني إبراهيم بن نصر ، قال حدثني إبراهيم بن يسار ، قال حدثني يوسف بن أسباط ، قال كتب إلي محمد بن سمرة السائح : يا أخي إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك ، فإنه محل الكلال وموئل التلف وبه تقطع الآمال ، وفيه تنقطع الآجال ، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك فاجتمع وهواك عليك فغلبا واسترجعا من بدنك من السلامة ما قد ولي عليك ، فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة ، وبادر يا أخي فإنه مبادر بك ، وأسرع فإنه مسرع بك وجد فإن الأمر جد ، وتيقظ من رقدتك ، وانتبه من غفلتك ، وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت ، فإنه مثبت محصى ، وكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبطت بما قدمت وندمت على ما فرطت ، [ ص: 237 ] فعليك بالحياء والمراقبة والعزلة فإن السلامة في ذلك موجودة . وفقنا الله وإياك لأرشد الأمور ، ولا قوة بنا وبك إلا بالله .


          إن عمر الفتا مرارة دهر راشفاها الغدو والآصال     فتذكر كم قد صحبت عزيزا
          ثم أمسى وأرضه صلصال     غفل الناس والقريب بعيد
          من ردى الموت واليقين محال     كم لبيب يهدي سواه لرشد
          وهو في عيش نفسه ليس يالو     يطلب المرء أن ينال رضاه
          ورضاه في غاية لا تنال     كلما زاده الزمان ثراء
          أحرمته لذة الآمال

          إخواني : الأيام سفر ومراحل ، وما يحس بسيرها الراحل حتى يبلغ البلد أو الساحل ، فليبادر المستدرك ، وما أظنه يدرك ، ما هذه الغفلة والفتور أما المآل إلى اللحود والقبور ، أما علمتم منتهى السرور ، أما الأجداث المنازل إلى النشور ، أيها الشاب ضيعت الشباب في جهلك ، أيها الكهل بعض فعلك يهلك ، أيها الشيخ آن الرحيل عن أهلك ، أيها المغتر بالأمل قد نقضت كف الأجل مجدول حبلك ، أيها الغافل أما أنذرك من كان من قبلك .


          مات الأب الأعلى وتابعه     أبناؤه ففنوا ونحن نسق
          في الترب من أبنائنا رمم     كانوا لنا سلفا ونحن لحق

          لقد نطقت العبر فأين سامعها ، واستنارت طريق الهدى فأين تابعها ، وتجلت الحقائق فأين مطالعها ، أما المنية قد دنت واقتربت فما بال النفوس قد غفلت ولعبت ، أمن المفرط أن يؤخذ بكظمه ويجازى من تفريطه على أعظمه ، ويأتيه الموت فيذهله بعظمه ، ويفاجئه بغتة بشتات منتظمه ، يا من على ما يضره قد استمر ، يا من أعلن المعاصي وأسر ، يا مؤثرا ما شان وما ضر ، يا محبا ما قبل قتل غيره وغر ، يا من إذا دعي إلى نفعه تولى وفر ، أما تعتبر بمن رحل من القرناء ومر ، أما تعلم أن من حالف الذنوب استضر ، أما تعلم أن الموت إذا أتى حمل وكر ، كأني بك إذا برق البصر تطلب المفر ، إلى متى تؤثر الفساد على السداد ، وتسرع في جواد الهوى أسرع من الجواد ، متى يتيقظ القلب ويصحو الفؤاد ، كيف بك إذا حشرت فخسرت يوم المعاد .


          يسرك أن تكون رفيق قوم     لهم زاد وأنت بغير زاد

          أسمع قولا بلا عمل ، وأرى خلالا خلالها الخلل ، إذا دعيت إلى الخير جاء الكسل وقلت لو شاء أن يوفقني فعل ، وإذا لاحت المعاصي كر البطل ، ويقول : خلق الإنسان من [ ص: 238 ] عجل . ويحك هذا الشيب قد نزل يخبرك بقرب الأجل ، خلت الديار وناح الطلل ، أيحتاج المهم إلى اعتدل ، يا قبيح الخصال إلى كم زلل ، ما لكبير في العذل لا ناقة ولا جمل .


          عليك بما يفيدك في المعاد     وما تنجو به يوم التناد
          فما لك ليس ينفع فيك وعظ     ولا زجر كأنك من جماد
          ستندم إن رحلت بغير زاد     وتشقى إذ يناديك المنادي
          فلا تفرح بمال تقتنيه     فإنك فيه معكوس المراد
          وتب مما جنيت وأنت حي     وكن متنبها من ذا الرقاد

          التالي السابق


          الخدمات العلمية