الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الكلام على قوله تعالى :

          وترى كل أمة جاثية


          الجاثية : الجالسة على الركب ، والمعنى أنها غير مطمئنة ، والأقدام يوم القيامة مثل النبل في الجعبة ، والسعيد من يجد لقدميه موضعا .

          قوله تعالى كل أمة تدعى إلى كتابها فيه قولان : أحدهما : كتاب حسناتها وسيئاتها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، والثاني : كتابها الذي أنزل على رسولها ، ذكره الماوردي .

          قال ابن مسعود : الأرض كلها نار يوم القيامة والجنة من ورائها يرون أكوابها وكواعبها ، ويعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قامة ثم يرتفع إلى أنفه وما مسه الحساب بعد ، قالوا : ومم ذاك ؟ قال : مما يرى الناس يصنع بهم ، قيل له : فأين المؤمنون ؟ قال : على كراسي قد ظلل عليهم بالغمام ، ما طول ذلك اليوم عليهم إلا كساعة من نهار .

          يا من قد ملأ كتابه بالقبيح وهو عن قليل رهن الضريح ، ألا تمحو قبح ما سطرت ، هلا تدبرت ما تملي ونظرت ، لقد سودت الكتاب بالزلل ، وأكثر ما دخل المنطق الدخل ، وحتام وإلام ؟ أبقي شيء بعد وهن العظام ؟

          يا دائما على هجره وإعراضه ، يا ساعيا في هواه وأغراضه ، يا من قد أخذ بناء جسمه [ ص: 547 ] في انتقاضه ، عليل الخطايا لا يزال في إمراضه ، هذا عسكر الممات قد دنا بارتكاضه ، هذا برق العتاب قد لج بإيماضه ، كيف قدر جفن العاصي على إغماضه ، كيف ينسى ما قد مات قدما من أبعاضه ، لو سمع صخر الفلاة لومك أو ذاق الألم من إمضاضه ، لعادت جلاميد الفلا كرضراضه ، يا من يعلم غلط عذره ووجه إدحاضه ، يا ساعيا إلى ما يؤذي بركاضه ، يا هاجرا نصيحه ليته أبغض قبيحه كإبغاضه ، استقرض المالك بعض مالك وتقعد عن إقراضه ، لقد أنذرك سهم الردى وقوعه قبل إنباضه ، فأحد حد حديدته وأسنه بمقراضه :


          بادر بمعروفك آفاته فبنية الدنيا على القلعة     وازرع زروعا يرتضى ريعها
          يوما فكل حاصد زرعه

          أف لعيش آخره الندامة ، آه من سفر نهايته بداية القيامة .

          إخواني : هذا نذير الموت قد غدا يقول : الرحيل غدا ، كأنكم والله والأمر معا ، طوبى لمن سمع فوعى ، كيف بكم إذا صاح إسرافيل في الصور بالصور ، فخرجت تسعى من تحت المدر ، وقد رجت الأرض وبست الجبال ، وشخصت الأبصار لتلك الأهوال ، وطارت الصحائف فقلق الخائف وشاب الصغار ، وبان الصغار ، وزفرت النار وأحاطت الأوزار ، ونصب الصراط وآلمت السياط ، وحضر الحساب وقوي العذاب ، وشهد الكتاب وتقطعت الأسباب ، فكم من شيخ يقول : واشيبتاه ، وكم من كهل ينادي : واخيبتاه ، وكم من شاب يصيح : واشباباه ، برزت النار فأحرقت ، وزفرت غضبا فمزقت ، وتقطعت الأفئدة وتفرقت ، وقامت ضوضاء الجدل ، وأحاط بصاحبه العمل ، والأحداق قد سالت والأعناق قد مالت ، والألوان قد حالت ، والمحن قد توالت ، أين عدتك لذلك الزمان ، أين تصحيح اليقين والإيمان ، أترضى يومئذ بالخسران ؟ أما تعلم أنك كما تدين تدان ؟ كم في كتابك من زلل ، كم في عملك من خلل ، هذا وقد قرب الأجل ، إي والله أجل ، كم ضيعت واجبا وفرضا ونقضت عهدا محكما نقضا ، وأتيت حراما صريحا محضا ، يا أجسادا صحاحا فيها قلوب مرضى .

          عباد الله : أطول الناس حزنا في الدنيا أكثرهم فرحا في الآخرة ، وأشد الناس خوفا في الدنيا أكثرهم أمنا في الآخرة ، يقول الله عز وجل : " أنا لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، إذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته في الآخرة "

          [ ص: 548 ] إخواني : المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف ، يرهب العاقبة ، ويحذر المعاقبة ، فالنار متمكنة من سويداء قلبه ، إن هو هفا توقدت في باطنه نار الندم ، وإن تذكر ذنبا اضطرمت نار الحزن ، وإن تفكر في منقلبه التهبت نار الحذر ، وإن صفا قلبه لمحبة خالقه صار القلب جمرة بنار الفرق ، فإذا ورد القيامة عادت ناره نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، فإذا جاز على الصراط لم تقاوم نار التعذيب نيران التهذيب ، فتنادي بلسان الاعتراف بالتفضيل : جز فقد أطفأ نورك لهبي ! .

          فإن هو حضر القيامة على زلل لم تصدق توبته منه فأوجب ذلك خمود نوره فقد خبت نار حذره في باطن قلبه ، فإذا لفحته جهنم فأحرقت ظاهره أحست بأثر شعلة الخوف في باطنه فكفت كفها عنه ، فلو قيل لها أين شدة شدتك وأين حديدة حدتك لقالت : لا مقاومة لي بنيران باطنه وإن قلت :


          يحرق بالنار من يحس بها     فمن هو النار كيف يحترق

          هذه صفة المؤمن فأين إيمانك هذا لذي الحسنات وقد خسر ميزانك ، شأنك الخطايا فهلا قرح شانك يا مهملا نفسه سيشهد جلدك ومكانك ، اليقظة اليقظة يا نيام ، الحذر الحذر فقد سل الحسام ، الزهد الزهد قبل الفطام ، كأنكم بكم في أثواب السقام ترومون الخلاص وقد عز المرام ، فستندمون على ما مضى من الآثام ، وتخرس الألسن وينقطع الكلام .

          إخواني : أحضروا القلوب لهذا الملام ، تالله ما أكرم نفسه من لا يهينها ، ولا يزينها من لا يشينها .

          دخل عثمان رضي الله عنه على غلام له يعلف ناقته فرأى في علفها ما كره فأخذ بأذن غلامه فعركها ثم ندم فقال : افعل بي ما فعلت بك ، فأبى الغلام فلم يدعه حتى فعل فجعل عثمان رضي الله عنه يقول له : شد شد ، حتى ظن أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ ثم قال عثمان : واها لقصاص الدنيا قبل قصاص الآخرة .

          كان القوم تحت حجر المحاسبة وكأنك مطلق .

          كان ابن السماك يقول : ألا منتبه من رقدته ، ألا مستيقظ من غفلته ، ألا مفيق من سكرته ، ألا خائف من صرعته ، أقسم بالله لو رأيت القيامة تخفق بزلازل أهوالها وقد علت النار مشرفة على أهلها وجيء بالنبيين والشهداء لسرك أن يكون لك في ذلك الجمع منزلة وزلفى .

          أبعد الدنيا دار معتمل ، أم إلى غير الآخرة منتقل ؟ كلا والله لقد صمت الأسماع عن المواعظ وذهلت القلوب عن المنافع .

          [ ص: 549 ] وعظ أعرابي ابنه فقال : أي بني إنه من خاف الموت بادر الفوت ، ومن لم يكبح نفسه عن الشهوات أسرعت به التبعات ، والجنة والنار أمامك .


          فيا ليتني هامدا لا أقوم     إذا نهضوا ينفضون اللمم
          ونادى المنادي على غفلة     فلم يبق في أذن من صمم
          وجاءت صحائف قد ضمنت     كبائر آثامهم واللمم

          سجع : يا أسفا للعصاة في مآبها ، إذا قلقت لقطع أسبابها ، وغابت في الأسى عند حضور عتابها كل أمة تدعى إلى كتابها قامت الأمم على أقدامها فأقامت تبكي على إقدامها ، وسالت عيون من عيون غرامها ندما على آثامها في أيامها واحتقابها كل أمة تدعى إلى كتابها .

          ظهرت أهوال لا توصف ، وبدت أمور لا تعرف ، وكشف حالات لم تكن تكشف ، إن لم تنتبه لهذا فأنت أعرف ، ستعلم من يلوم نفسه عند عذابها كل أمة تدعى إلى كتابها قيدت جهنم فبدت بأزمتها ، فبكت النفوس على دناءة همتها ، كم من ديون تعلقت بذمتها ، على أنه يكفيها ما بها كل أمة تدعى إلى كتابها .

          أنت تدري ما في كتابك ، وستبكي والله عند عتابك ، وستعلم حالك يوم حسابك ، إذا كلت كل الألسن عن جوابها كل أمة تدعى إلى كتابها يا له يوم لا كالأيام ، تيقظ فيه من غفل ونام ، ويحزن كل من فرح في الآثام وتيقن أن أحلى ما كنت فيه أحلام ، واعجبا لضحك نفس البكاء أولى بها كل أمة تدعى إلى كتابها .

          كم من نفس ترى بعين الصلاح تفعل الخير في المساء والصباح ، عملت أعمالا ترجو بها الفلاح ، فلاح لها ما لم يكن في حسابها كل أمة تدعى إلى كتابها .

          ذكر الله نفوسنا مر شرابها ، وجعلنا ممن مد باع التقوى فباع وشرى بها ، وحفظنا إذا حارت النفوس لشدة أوصابها ، ورزقنا قبول موعظته فقد أوصى بها كل أمة تدعى إلى كتابها .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية