الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          ولما تهيأ الناس للخروج إلى غزوة مؤتة جعل المسلمون يقولون : صحبكم الله ودفع عنكم . فقال ابن رواحة :


          لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا     أو طعنة بيدي حران مجهزة
          بحربة تنفذ الأجشاء والكبدا     حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
          أرشدك الله من غاز وقد رشدا



          أخبرنا محمد بن ناصر وعلي بن أبي عمر ، قالا أنبأنا رزق الله وطراد ، قالا حدثنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا ابن صفوان ، حدثنا أبو بكر القرشي ، حدثني أبي ، حدثنا عبد القدوس بن عبد الواحد الأنصاري ، حدثنا الحكم بن عبد السلام ، أن جعفر بن أبي طالب حين قتل دعا الناس : يا عبد الله بن رواحة . وهو في جانب العسكر ومعه ضلع جمل [ ص: 393 ] ينهشه ، ولم يكن ذاق طعاما قبل ذلك بثلاث . فرمى بالضلع ثم قال : وأنت مع الدنيا ! ثم تقدم فقاتل فأصيب أصبعه فارتجز :


          هل أنت إلا إصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت
          يا نفس إلا تقتلي تموتي     هذا حياض الموت قد صليت
          وما تمنيت فقد لقيت     إن تفعلي فعلهما هديت




          وإن تأخرت فقد شقيت



          ثم قال يا نفس إلى أي شيء تتوقين ؟ إلى فلانة ؟ فهي طالق ثلاثا . وإلى فلان وفلان ، غلمان له ، فهم أحرار وإلى معجف حائط له ، فهو لله ولرسوله :


          يا نفس ما لك تكرهين الجنه     طائعة أو لتكرهنه
          قد طال ما قد كنت مطمئنه     هل أنت إلا نطفة في شنه




          قد أجلب الناس وشدوا الرنه



          لله در أقوام تعبوا فأريحوا ، وزهدوا فأبيحوا ، جليت أبصارهم فشاهدوا ، وأعطوا سلاح المعونة فجاهدوا ، وتأملوا الدنيا وسبروها ، وعرفوا حالها وخبروها ، فصدت نفوسهم ، ما صدها ما كانت تعبد وأقبلت على قبلة الاعتذار في مناجاة " ظلمت نفسي " فضربت بالدنيا وجه عشاقها ، وشمرت في سوق الجد عن ساقها ، ونقضت لتصحيح عملها مخدع الخديعة ، ونفضت يد أملها من سراب بقيعة ، فحدت ركائب سيرها في إدلاج سراها ، وزادها نشاطا حادي الهمة لما حداها ، فسبقت إلى الخلال الكرائم ووصلت إلى الإفضال وأنت نائم .


          قالت المكرمات لست لمختا     ر ولكن لصامد لي صمدا
          ويكد الجثمان والروح والجا     ه طويلا ولا يرى الكد كدا



          يا هذا لو صحت منك العزيمة أوقعت في جيش الهوى هزيمة ، إن في البدن مضغة إذا صلحت صلح البدن وإذا فسدت فسد البدن ألا وهي القلب ، يا هذا متى حصل الفساد في رأي الملك تشتت الأعوان ، ومتى رمي القذر في فوهة النهر أثر في المشارع .


          وإذا كان في الأنابيب خلف     وقع الطيش في رؤوس الصغار



          يا هذا إن أردت لقاءنا في حضرة القدس ، واشتاق سمعك إلى نغمات الأنس ، فصم عن لذات النفس وشهوات الحس ، واصبر على قطع مفاوز الحسن واستأنس ببثك في بيت الوجد ، وقض نهار المنى بمحادثة الفكر ، واقطع أمل الهوى بقهر العزم ، واقرع فضول الكلام بسوط الصمت ، وأقم على طرف طرفك حاجب الغض ، وانبذ إلى كلب الشهوات [ ص: 394 ] كسر الصبر ، وفرغ دار عزلتك من شواغل القلب ، فإذا سمعت ضجيج محبوس النفس يستغيث من سجن الزهد لشدة الحصر فصح به : يا صاح صبرا على ضيق الحبس ، لعلك تخرج إلى رياض اجعلني على خزائن الأرض .


          وقد صمت عن لذات دهري كلها     ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي



          [ ص: 395 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية