الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          المجلس التاسع

          في ذكر الأمر بالمعروف

          الحمد لله مدبر الليالي والأيام ، ومصرف الشهور والأعوام ، المنفرد بالكمال والتمام ، الملك القدوس السلام ، تنزه جلاله عن درك الأفهام ، وتعالى كماله عن إحاطة الأوهام ، ليس بجسم فيشبه الأجسام ، ولا بمتجوف فيحتاج للشراب والطعام ، ارتدى برداء الكبرياء والإعظام ، وأبصر ما في بواطن العروق ودواخل العظام ، وسمع أخفى القول وألطف الكلام ، لا يعزب عن سمعه صريف الأقلام ، ولا يخفى على بصره دبيب النمل تحت سجف الظلام ، إله رحيم عظيم الإنعام ، ورب قدير شديد الانتقام ، قدر الأمور فأحسن إحكام الأحكام ، وصرف الحكم في فنون النقض والإبرام ، بقدرته هبوب الريح وتسيير الغمام ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام .

          أحمده حمدا يبقى على الدوام ، وأقر بوحدانيته كافرا بالأصنام . وأصلي على رسوله محمد شفيع الأنام ، وعلى صاحبه أبي بكر أول سابق إلى الإسلام ، وعلى عمر الذي كان إذا رآه الشيطان هام ، وعلى عثمان الذي أنهض جيش العسرة بنفقته وأقام ، وعلى علي البحر الغطامط ، والأسد الضرغام ، وعلى عمه العباس أبي الخلفاء الأعلام .

          اعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل الدين ، فإنه شغل الأنبياء ، وقد خلفهم فيه خلفاؤهم ، ولولاه شاع الجهل وبطل العلم .

          أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزار بسنده ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم ، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم " .

          أخبرنا علي بن عبد الله بسنده ، عن جرير ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم فيهم رجل يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع ، لا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب " .

          [ ص: 659 ] واعلم أنه قد اضمحل في هذا الزمان الأمر بالمعروف ، حتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وهذا زمن قوله عليه الصلاة والسلام : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ " .

          وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا للمنكر ، والساكت عن الإنكار .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده إلى عامر قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب - وأومأ بإصبعه إلى أذنيه - : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها ، مثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقا واستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الخلق .

          وفي أفراد مسلم من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليفعل ، فإن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " .

          وفي حديث أبي سعيد أيضا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : ما أفضل الجهاد ؟ فقال : " كلمة عدل عند سلطان جائر " .

          وقال الشافعي رحمه الله : أشد الأعمال ثلاثة : الجود من قلة ، والورع في خلوة وكلمة حق عند من يرجى ويخاف .

          وفي حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له أنت ظالم فقد تودع منهم " .

          وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل [ ص: 660 ] العامل منهم بالخطيئة نهاه الناهي تعذيرا ، فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئته بالأمس ، فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ثم لعنهم على لسان داود ، وعيسى ابن مريم ، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه فلتأطرنه على الحق أطرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم " .

          وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه " .

          وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم " .

          قال مالك بن دينار : قرأت في التوراة : من كان له جار يعمل بالمعاصي فلم ينهه فهو شريكه .

          وقال مسعر : أمر ملك أن يخسف بقرية ، فقال : يا رب فيها فلان العابد ، فأوحى الله تعالى إليه : أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط .

          وينبغي للآمر بالمعروف أن يلطف ، فقد قال الله تعالى : فقولا له قولا لينا .

          ومر أبو الدرداء برجل قد أصاب ذنبا وكانوا يسبونه ، فقال لهم : أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه ؟ قالوا : بلى ، قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم ، قالوا : أفلا تبغضه ؟ قال : إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي .

          ورأى محمد بن المنكدر رجلا يكلم امرأة في موضع خرب ، فقال : إن الله تعالى يراكما سترنا الله وإياكم .

          أخبرنا ابن ناصر بسنده ، عن ثابت البناني ، قال : كان صلة بن أشيم يخرج إلى الجبان فيتعبد فيها ، وكان يمر على شباب يلهون ويلعبون فيقول لهم : أخبروني عن قوم أرادوا سفرا فحادوا بالنهار عن الطريق ، وناموا بالليل متى يقطعون سفرهم ؟ فكان كذلك يمر بهم فيعظهم ، فمر بهم ذات يوم ، فقال لهم ذات يوم هذه المقالة ، فقال شاب منهم : يا قوم إنه [ ص: 661 ] والله ما يعني بهذا غيرنا ، نحن بالنهار نلهو وبالليل ننام ، ثم اتبع صلة فلم يزل يختلف معه إلى الجبان ويتعبد معه حتى مات .

          ومر بصلة بن أشيم فتى يجر ثوبه ، فهم أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا ، فقال صلة : دعوني أكفكم أمره . ثم قال له : يا بن أخي إن لي إليك حاجة .

          قال : وما هي ؟ قال : أحب أن ترفع إزارك . قال : نعم ونعمى عين ! فرفع إزاره ، فقال صلة لأصحابه : هذا أمثل مما أردتم ، لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم .

          وقال سليمان التيمي : ما أغضبت أحدا فقبل منك .

          وقال فتح بن شخرف : تعلق رجل بامرأة ومعه سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره ، وكان شديد البدن ، فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح ، مر بشر بن الحارث فدنا منه ، وحك كتفه بكتف الرجل ، فوقع الرجل إلى الأرض ومرت المرأة ومر بشر ، فدنوا من الرجل وهو يرشح عرقا ، فسألوه : ما حالك ؟ فقال : ما أدري ولكن حاكني شيخ ، وقال : إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل . فضعفت لقوله وهبته هيبة شديدة لا أدري من ذلك الرجل ، فقالوا له : ذاك بشر بن الحارث ، فقال : واسوأتاه كيف ينظر إلي بعد اليوم ! وحم من يومه ذاك . ومات يوم السابع .

          وينبغي للآمر بالمعروف أن يحذر من فعل ما نهى عنه ، وترك ما أمر به .

          فقد أخبرنا عبد الأول بسنده ، عن أمامة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه في النار ، فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه ، فيقولون : أي فلان ما شأنك ، أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " .

          أخرجاه في الصحيحين .

          واعلم أنه إذا هذب الآمر نفسه أثر قوله ، إما في زوال المنكر ، أو في انكسار المذنب ، أو إلقاء الهيبة له في القلوب .

          خرج إبراهيم الخواص لإنكار منكر ، فنبح عليه كلب فما قدر على الوصول إلى مكان المنكر ، فرجع إلى مسجده وتفكر ساعة ، ثم قام فجعل الكلب يتبصبص حوله ولا يؤذيه حتى أزال المنكر ، فسئل عما جرى له ، فقال : إنما نبح علي لفساد دخل علي في عقد بيني وبين الله عز وجل ، فلما رجعت ذكرته فاستغفرت .

          [ ص: 662 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية